الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
قبل أن يتصالح «على» و «فتحى»!
(مصر مصرية لكل المصريين)، يقينا قادرا على أن يحمل كلُ منْ يُلبى نِداه إلى عتبات حلمه، وعلى قدر ضيق الواقع، وقسوة وطأته، وتصاعد أوجاعه، تظل الآمال معقودة بناصية الوجع، رافعة لها راية، يُسَلِّى بها كل موجوع فى هذا الوطن حاله، عنوانها (إنه وجع المخاض للميلاد الجديد).

ونحو هذا المخاض انطلقت على ثرى مصر ثورتان، فى الأولى كان الحق عنواناً (عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية)، وفى الثانية كان التحرير هدفاً (مصر مصرية) بغير تصنيف من جذور الرحابة يخلعنا، و(مصر للمصريين) بغير تمييز على أشلاء أرض الوطن يُفَتِّتُنا.

وفى سبيل انتظار ميلاد يعقب المخاض، وعلى مدى قرابة أعوام ستة، عاش الناس فى وطنى يعالجون مرار الوجع، يواجهون غباء من يحتكر الدين، بإيمان عَتَقَتْهُ القرون الممتدة فى التاريخ، ويصارعون غواء من يحتكر الوطن بلم الشمل فى الأفراح والأتراح. بينما يُتاجر الفاسد الدينى والسياسى بجوع الناس الطويل عبر كراتين الرز والسكر والزيت.

فى أواخر 2012م، أطلق من عزله الشعب إعلانه الدستوري، وضمَّنَه إعادة محاكمة من خَلَعه الشعب، لتعود عجلة التاريخ بالزمن إلى العام 1995م، حين صنع المخرج شريف عرفه فيلمه الذى صاغه الكاتب وحيد حامد (طيور الظلام)، وتحديدا إلى مشهد النهاية حيث السجن يجمع (علي) ممثل الإخوان (التنظيم المتاجر بالدين)، و(فتحي) النظام المتاجر بالوطن، يلتقيان فى حوش السجن للمرة الأولى بعد القبض عليهما، يتواجهان بكبرياء الواثق، ويبدأ الحوار بينما كرة تتدحرج بين أقدامهما، يضحك فتحى ويقول (برضه مع بعض يا علي)، فيجيب الآخر (إحنا فى مركب واحد يافتحي)، ويؤكد كلاهما أنه يقضى فترة حبس احتياطى وأنه (زى الفل ومش خايف)، وتتدحرج الكرة بعيداً بينما يتبادلان النظرات إليها وإلى بعضهما ويقول على (بس أنا خارج يا فتحي)، فيرد الثانى (وأنا خارج قبلك)، ويجريان صوب الكُرَة التى يركلانها قبل أن يسقطا فتطير خارج السجن مصطدمة بزجاج يعزل من يرى عن الواقع وتكسره لينتهى الفيلم بينما يستمر الواقع واقعاً؟.

قبل ثورة يناير 2011 مباشرة، كان (علي) يتجسد فى قادة تنظيم الإخوان، الذين كانوا يتقاطرون على السجون، وكان للنظام وجوه عدة تجسد دور فتحي، تقطن نفس السجون، وظلت مصالح الطرفين تدور وفق توجيهات منهم ومتابعة وهم فى سجونهم، ومن مفارقات القدر قبل ثورة 2011م، أن شهد سجن مزرعة طره، خلافاً احتد وتصاعد وصولاً إلى القطيعة وعدم إلقاء السلام دب بين اثنين من مجسدى دور (علي).

لأن أحدهما فتح خطا للعلاقة مع أحد مجسدى دور (فتحى) داخل السجن دون علم الآخر ولم تعد المياه إلى مجاريها إلا حين خرجا من السجن عقب ثورة يناير بإفراج صحى.

وبالسعى للبحث حول العلاقة القديمة بين (على وفتحي)، نكتشف أن كل المعارك التى خاضها الطرفان ضد بعضهما كانت تستهدف التحجيم وليس الإفناء، فوفق التاريخ الموثق حارب النظام الناصرى تنظيم الإخوان، لكن هذه الحرب لم تستهدف القضاء على الفكرة وتعرية التنظيم فعلاً، بل إن هذه الحرب لم تمنع الجهاز الأمنى الناصرى من الاتصال بقيادات التنظيم فى المحافظات عقب اعتقالات 1954 لمتابعة (لجان التكافل) فى كل محافظة والتى بدأت لجان تكافل وخلال تسع سنوات كانت قد أعادت بناء قواعد التنظيم من جديد وفتحت قنوات اتصال مع الخارج وخططت لانقلاب مسلح وأرسلت فى طلب السلاح من السودان، ليبدأ فصل جديد من مواجهات (فتحى وعلي) ينتهى بأحداث 1965م وإعدام سيد قطب والإبقاء على قيادات التنظيم الأصيلة حتى خرجوا بدايات عصر السادات الذى استهدف توطيد العلاقة بين (على وفتحي) ليقضى على خصومه وبعد ست سنوات كانت حياته ثمن توطيد العلاقة، وكان عصر (مبارك) حيث ازدهرت العلاقة بين (فتحى وعلي)، وأثمرت تفاهمات أمنية سرعان ما خلفت علاقات سياسية واقتصادية وصولاً إلى علاقات اجتماعية، أوصلت فعلا (فتحى) النظام إلى أن يصاهر (على) التنظيم بزواج ابنة الأول من ابن الثانى!

ولكن هذه العلاقات على توطدها فى عصر مبارك، وعلى ما عادت على التنظيم بمكاسب على مستويات عدة (اقتصاد ـ سياسة ـ انتشار ..إلخ)، ويمكن الجزم بأن على لم يحصل عليها منذ زمن (علي) المؤسس ذحسن البنا-، إلا إنها لم تمنعه من الوثوب إلى كرسى (فتحي) عندما سنحت الفرصة فى 25 يناير 2011م.

ولولا تنبه المصريين، ملاك هذا الوطن الأصليين، والأصلاء انتماء دونما تلون أو تحزب أوانحياز أو مصالح، لكان «علي» متمكنا بقوة التنظيم، يسير عبر ميليشياته فى دروب الوطن فارضاً سلطان تمكينه، على حساب الوطن والمقدرات والحريات ومن قبلهم الأرواح.

إن الحديث عن (على وفتحي) فى هذا التوقيت، لا يمثل إلا صرخة فى وعى المعنى بالمستقبل فى هذا الوطن، صرخة تقض مضجع كل غافل فى ضجيج دحرجة فكرة (المصالحة)، تلك الكرة التى يرميها «عليس» التنظيم لتتدحرج فى وعى قواعده باعتبارها هدنة، والتى يرميها «فتحى» إعلاميا، مستنكرا إياها ونافيا لها ومعتبرا أنها تتصادم مع إرادة الجماهير، والحقيقة أن التاريخ منذ ثورة 1952م وحتى اليوم يؤكد أن (كل مصالحة بين على وفتحى جمدت كل تطور فى هذا الوطن).
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف