ربما كان وزير التعليم الحالى مثيراً للجدل حقاً لأسباب متعددة، على رأسها أخطاؤه الإملائية التى اتخذها البعض ذريعة لنقده حتى قبل أن يتولى منصبه، وبسبب التسريبات المتكررة التى طالت أكثر المهام التى يقوم بها خطورة وهى امتحان الثانوية العامة، ولكن الأمر لم يستفزنى للحديث عنه من قبل، فلا خبرة لدىّ فى مجال التعليم قبل الجامعى..
كل ما كنت أعرفه أننا نعانى فى مجال التعليم، والأسباب التى يسوقونها فى هذا الشأن كثيرة؛ أولها وأهمها دوماً هو ضعف الموازنة، وبالتالى ضعف المقابل المادى للمعلم ومحدودية تدريبه ليقدم للطلاب مستوى مرتفعاً من التلقين والفهم.
كلها أسباب أسهب الكثيرون فى مناقشتها، ولكننى اكتشفت مؤخراً أنهم جميعاً مخطئون! فمعاناتنا فى التعليم سببها الأساسى أمر لا يخطر على بال أحد!!
لقد كانت المرة الأولى التى أزور فيها مدرسة ابتدائية، ربما منذ أن تخرجت فى مدرستى التى تعلمت فيها حروفى الأولى، وربما هى المرة الأولى أيضاً التى أكتشف فيها حجم الجريمة التى يرتكبها المسئولون فى هذه الوزارة المهمة فى حق أولادنا، بل فى حق مستقبل هذا الوطن!
الزيارة كانت ضمن فريق لجمعية خيرية كبيرة، أخذت على عاتقها مشروعاً نبيلاً يهدف إلى توزيع حقائب مدرسية على أطفال المدارس الأكثر فقراً، وهو أمر محمود ينبغى أن نشكرهم عليه، ولكن الصدمة كانت فى تلك المدرسة التى قمت بزيارتها مع الفريق الخيرى!
المدرسة كانت -ككل مدارس التعليم الأساسى فى مصر- تحمل أعداداً أكثر من احتمال الفصول الدراسية، الأمر الذى يؤثر حتماً على جودة التعليم الذى يتلقاه التلاميذ، والشكوى المعتادة من المدرسين كانت عن تكدس الفصول وأعداد الطلاب، بالإضافة إلى ضعف المقابل المادى الذى يجعلهم يلجأون للدروس الخاصة لزيادة دخلهم!!
كلها أمور اعتدناها عند الحديث عن التعليم فى هذا الوادى الطيب، ولكننى اكتشفت أن الأمر لا يعنى وزارة التعليم فى شىء تقريباً!
ففى الوقت الذى تعصف كل تلك المشاكل بالطالب والمعلم على حد سواء، تقوم الوزارة بتوزيع «سبورات ذكية» على المدارس الابتدائية فى القرى، فى غياب تام لفقه الأولويات، وفى استهتار شديد يصل إلى حد الوقوع فى شرك جريمة إهدار المال العام!
نعم، لم تخطئ عزيزى القارئ فى قراءة السطور السابقة؛ فمدارس التعليم الأساسى فى مصر التى تعانى مشاكل جمة فى أعداد الطلاب والمدرسين، وتعانى عدم وجود حتى مراحيض نظيفة للتلاميذ، تحتوى على سبورات ذكية يبلغ ثمن الواحدة بضعة آلاف من الجنيهات تم توزيعها من الوزارة فى العام الدراسى الماضى، دون وجود أجهزة حاسب آلى تصلح لتشغيلها، ودون أن يتم تدريب المدرسين على استعمالها، ما جعلهم يتسلمونها فى الفصول، ثم يقومون باستعمال السبورة العادية بجوارها!!
لقد قامت وزارة التربية والتعليم بتحديد المشكلات التى يعانى منها التعليم المصرى، وقامت بحصر التحديات التى تواجه الوطن فى مجال التعليم، ثم كان الحل السحرى الذى سيجعل التعليم المصرى يصل إلى العالمية، الذى لا أدرى كيف كان غائباً عن الجميع أن توزع على المدارس «سبورة ذكية»!
الطريف أن السبورة المذكورة تحتاج لجهاز كمبيوتر بجوارها، كما تحتاج إلى أن يدرك المعلم وسيلة استخدامها، وهى أمور اعتبرتها الوزارة ثانوية للغاية، ولم تهتم بتوفيرها بالمرة، المهم أن السبورة قد تم تركيبها!!
لقد تم توزيع ١٦٦٥٧ سبورة ذكية على ١٦٠٢ مدرسة فى العام الماضى، تراوح سعر شراء السبورة الواحدة بين أربعة آلاف وخمسة آلاف جنيه مصرى!! ما يعنى أن الأمر تكلف أكثر من ثمانين مليوناً من الجنيهات كان يمكن أن يتم استخدامها لتحسين دخول المعلمين، أو حتى بناء فصول لاستيعاب الأعداد الكبيرة للتلاميذ، ولكن يبدو أن سيادة الوزير لا يعرف أن لديه عجزاً فى تلك البنود!
الأرقام السابقة تستند إلى إحصائيات الوزارة نفسها، وهو أمر يخرج من نطاق سوء الإدارة إلى نطاق السفه فى الإنفاق فى رأيى! ويستلزم أسئلة كثيرة حول الفكرة نفسها وتوقيت التطبيق!
السؤال الأكثر إثارة للموقف هو ما الذى سيستفيده التلميذ إذا تعلم على سبورة ذكية؟ ما حجم التطوير الذى سيلمسه الطالب إذا دخل فصله فلم يجد له مكاناً يجلس فيه، ولكنه وجد سبورة ذكية على الحائط؟!
لن أتحدث عن أزمة الدولار التى تعصف بالبلاد منذ عام مضى، والتى كانت تقتضى الحد من استيراد السلع غير الأساسية، والتى تقع سبورة سيادة الوزير الذكية على رأسها!
أعتقد أن تحقيقاً ينبغى أن يتم فتحه فى ذلك الشأن، وحساب المتسبب فى إهدار تلك الأموال فى أمر لا يحتاجه الطالب أو المعلم من الأساس ينبغى أن يحدث! فالشكوى من ضعف موازنة التعليم لا تستقيم مع إهدار الوزارة للملايين بهذه الطريقة، والتعليم المصرى لن ينصلح حاله أبداً إذا استخدم الطلاب «سبورة الهلالى الذكية»!