عبد المنعم سعيد
الخسارة فى قانون الجمعيات الأهلية!
فى جلسة من جلسات المؤتمر الوطنى للشباب، وقف الأستاذ الكبير مكرم محمد أحمد لكى يقول ما معناه إن المشهد الماثل أمام الجميع حيث يجتمع كل الممثلين للآراء المختلفة، فى الإعلام مع ممثلين للشباب والأحزاب فى حضور رئيس الجمهورية، ويتبادلون الرأى ويأخذون ويعطون؛
هذا المشهد لا يوجد مثيل له فى دول المنطقة كلها. ارتجت القاعة بتصفيق حاد عاكسا حاجة المزاج العام لتعريف مختلف لما كان يجرى فى القاعة وقتها، فلم يكن الموضوع أن هناك آراء متنوعة ومتناقضة أحيانا، وإنما الجوهر كان أن الجميع فى قاعة واحدة فيها ما يكفى من الحرية الذى لا نكاد نجده فى بلد آخر فى الشرق الأوسط. شىء من هذا نحتاجه الآن فيما يخص قانون الجمعيات الأهلية الذى أرجو ألا ينشر هذا المقال وقد تم إقراره على ذات الصورة المؤسفة التى عرض بها فى مجلس النواب.
المسألة ببساطة أن فى مصر بالفعل مجتمعا مدنيا وأهليا متنوعا وواسع النطاق، ومعبرا عن طاقة اجتماعية وسياسية واقتصادية كافية لحركة الدولة والمجتمع. مثل ذلك، لو استعرنا منطق الأستاذ مكرم محمد أحمد، لا يوجد مثيل له فى كثير من بلدان المنطقة. فلا يوجد فى بلد آخر 47 ألفا من الجمعيات وربما أكثر، والمدهش أن هذا العدد من الجمعيات تم تأسيسه بينما جميع القوانين المنظمة للعمل الأهلى تعد من النوع المقيد أكثر منه مشجعا أو محفزا على عكس الحال فى الدول المتقدمة التى تعتبر هذا النوع من النشاط أحد الأعمدة الرئيسية للدولة. ومع ذلك فإن القانون الذى تم عرضه على مجلس النواب يعد الأسوأ من بين القوانين التى نظمت العمل الأهلى فى مصر منذ قانون 1964 حتى الآن. وبدلا من أن يأتى القانون مواكبا لحديث النهضة، والبناء والمشروعات العملاقة، ومعدلات النمو العالية، وبناء الديمقراطية والدولة المدنية والحديثة أيضا؛ إذا به يعبر عن دولة مهيمنة ومذعورة فى آن واحد، ولا يوجد فى ذهنها إلا موضوع واحد هو االتمويل الأجنبي«، والذى لا يخص إلا عددا محدودا من الجمعيات التى تخص «حقوق الإنسان». ومن المدهش أن هذا الجانب الهامشى للقضية كلها يستخدم لإضعاف العمل الأهلى كله، ويحرم الوطن كله من واحدة من أنبل طاقاته البناءة.
النائب المتميز محمد أنور السادات طرح فى رسالة له اقتراحا مؤداه أنه مادام أن الدولة لديها شكوك وهواجس إزاء موضوع التمويل الأجنبى فإن على الدولة أن تمنعه تماما وبصورة كاملة. ويكون البديل لذلك إنشاء صندوق للعمل الأهلى يتم تمويله بوسائل متنوعة اقترحها لكى يتم منها الإنفاق على الجمعيات الأهلية، وكذلك تشجيع شبكات العمل الأهلى فى الريف المصرى نظرا لما يقوم به من وظائف مهمة فى حماية المجتمع والتخفيف من الظروف الصعبة التى يعيشها. الأمر المهم فى هذا الاقتراح هو ألا تفقد مصر تميزا كبيرا تحتاجه بقوة خلال المرحلة المقبلة، حتى ولو كان الثمن فقدانها بعضا من العون الخارجى المهم الذى يضيف ولا ينقص. ومع ذلك فإن الأمر كله من الأهمية بحيث لا يمكن القبول ببساطة بأهون الشرور، مادام أنه بالإمكان تعظيم المكاسب فى مرحلة لا يوجد لدى مصر ترف التخلى عن موارد عالمية متاحة.
المدهش فى الموضوع كله أن مشروع الحكومة لتنظيم الجمعيات الأهلية الذى أعدته وزارة التضامن الاجتماعى جرى دفعه جانبا لمصلحة وجهة نظر محورها أن تتحمل الدولة كل الأعباء الاجتماعية والاقتصادية. وهى نفس وجهة النظر التى تشل الاستثمار بدلا من إطلاقه، وهى التى تقيد الإبداع والابتكار بدلا من شيوعه، وهى التى تسير عكس الاتجاه العام الذى تنادى به الدولة ويعبر عنه رئيسها بأن مصر على أبواب مرحلة جديدة من تاريخها، تمسك بلب المسائل وليس هوامشها، وتعيش عصرها ولا ترجع إلى الوراء. وبصراحة فإنه لا يمكن قبول وجهة النظر التى ترى أن قانون الجمعيات الأهلية هو سبيل لحماية أمن الوطن من التدخل الأجنبى لأن مصر التى نريدها ليست مرتعدة، وليست منفصلة عن عصرها، وفى الأول والآخر فإنها ليست حالة وحيدة منفردة ومختلفة عن كل دول العالم التى تتفاعل فيما بينها. وبصراحة أكثر فإن وظيفة القانون، كما هو الحال فى كل القوانين، أن تنظم التفاعلات فى ظاهرة اجتماعية بعينها بين أطراف متعددة بحيث تكفل لها أن تقوم بوظائفها الأساسية التى فى هذه الحالة للجمعيات الأهلية لن يختلف أحد على أنها بالغة الفائدة للوطن وعملية بنائه.
وهكذا فإن الأمر كله يحتاج إلى مراجعة، وإذا كانت الجمعيات الحقوقية تمثل عقبة أمام انطلاق الجمعيات الخيرية والتنموية بأشكالها المختلفة، فربما يكون من المفيد الفصل بينهما. المهم فى كل الأحوال أن تجرى عملية تشاور واسعة مع منظمات العمل الأهلي، ومع الخبراء والمتخصصين فى الموضوع، ولمن لا يعلم فإن فى مصر مدرسة كبيرة الآن من الدارسين والعارفين الذين وضعوا الجمعيات الأهلية المصرية تحت ميكروسكوب البحث العلمى لكى تعرف اتجاهاته وأنشطته ووظائفه، وكيف يمكن تعزيزه ودفعه لكى يكون إضافة لطاقات مصر، وليس خصما منها. ويرد إلى الذهن هنا فورا المدرسة الكبيرة التى بنتها الأستاذة الدكتورة أمانى قنديل ومن جاءوا بعدها وتتلمذوا فى مدرستها، والتى فضلا عن حصر منظمات المجتمع الأهلى وتصنيفها، فإنها قدمت الكثير للكيفية التى تجعل الاقتراب من الظاهرة بأسرها عملا من الأعمال الوطنية الكبري. والحقيقة، ومصر لديها كل هذه المعرفة، فإن ما وصلنا إليه من قانون، لا يأخذنا خطوة واحدة إلى الأمام، وإنما يأخذنا خطوات كثيرة إلى الخلف.