الأهرام
محمد ابو الفضل
فن تغييب العقل فى مصر
هذا حديث سياسى وثقافى وإعلامي، ولا علاقة له بالفلسفة بمعناها العميق، التى لها أصحابها. هو حديث يقتصر على مناقشة بعض الظواهر
التى تؤكد أننا على وشك أن نفقد ما تبقى من رشدنا، وربما وعينا، إذا استمر التعامل مع المستجدات، بطريقة مليئة بالاستخفاف، توحى بأن هناك اتجاها رسميا يدعمها ويشجعها، لأن الطرب أو الصمت، يعطى انطباعات بالرضا عن أصحابها، ويمنحهم قوة لمزيد من التمادي، والبحث عن وسائل جديدة لتغييب العقل.

هناك حزمة كبيرة من التطورات تؤيد النتيجة السابقة، من يتفحصها، يكتشف مخاطر الطريق الذى نسير فيه، دون أن يبادر أصحاب الأمر والنهى والرأي، بإظهار الرفض والغضب، من الأسلوب الذى تعالج به قضايا وملفات على مستوى عال من الأهمية والخطورة. ويمكن التوقف عند ثلاثة موضوعات شغلت الناس خلال الأيام الماضية، بما يتيح الفرصة للتوضيح والتفسير.

الأول، فيلم قناة الجزيرة، عن التجنيد فى الجيش المصري، والذى مُنح دعاية، قبل عرضه، لم يحلم بها صناعه ومن وقفوا خلفهم، فمنذ بث الدعاية أو «البرومو» الإعلانى الخاص بالفيلم، وحتى بعد إذاعته، ونحن نرى سباقا من جانب البعض، فى كيفية الهجوم على قطر، دون أن يتوقف الغالبية عند تفنيد الحجج الواهية التى ساقها الفيلم، وصنعت بطريقة بدائية، وهى كفيلة أن تفضح الأسباب السياسية التى وقفت وراء إنتاجه، وإذاعته فى الوقت الراهن.

لم يجتهد هؤلاء فى الحديث بلغة إعلامية راقية، وبادلوا التطاول بمثله، مع أن الجيش المصري، ليس فى حاجة للدفاع عنه، فقوته المادية والمعنوية، التى وضعته فى مصاف جيوش العالم، كفيلة بالرد على من حاولوا النيل منه، كما أن نوايا قناة الجزيرة والداعمين لها، معروفة، ولا تستحق عناء الرد عليها.

لكن الموضوع برمته، كشف عن وجه غائب، وحاجة ملحة للتوسع فى الإنتاج الفنى لتأكيد عراقة الجيش المصري، ودوره فى الحروب المتعددة، التى خاضها داخليا وخارجيا، وفضح المؤامرات التى تحاك ضده، خاصة أن هذه المؤسسة لعبت دورا مهما، فى تحطيم إستراتيجيات عالمية، وأوقفت زحف سيناريوهات غامضة، كانت تعد للمنطقة، وبالتالي، رب ضارة نافعة، فقد يدفع ما حصل، إلى التجهيز لفيلم، أو عدة أفلام، تتناول باحترافية عالية، البطولات المختلفة للجيش، بدلا من الانخراط فى نوبات من البكاء والصراخ والردح والشتائم، تضر العقل الجمعي، وربما تغيبه، وتعطى فرصة لمن تطاولوا، ليعيدوا التجاوزات فى مجالات أخري، بعد أن وصلت إليهم صورة خاطئة، توحى بالارتباك وعدم الثقة.

الموضوع الثاني، حرائق إسرائيل، التى تعاملت معها بعض الجهات، باعتبارها انتقاما ربانيا، وحاولت تقديم الحجج والمبررات الداعمة لذلك، ردا على قيام الحكومة الإسرائيلية بمنع الآذان فى المسجد الأقصي، وكأن جميع التجاوزات والانتهاكات والمجازر التى ارتكبت من قبل لم تكن كافية، ناهيك عن إقامة المستوطنات وعمليات التهجير والتصرفات السلبية بحق المواطنين الفلسطينيين.

لم يناقش من رددوا هذه الحجة، الأسباب الطبيعية التى أدت إلى انتشار الحرائق، وتاريخها، وحجم الخسائر، وأدوات التعامل معها، وأساليب السيطرة عليها، واكتفوا بتقديم مجموعة من التفسيرات، التى تلغى العقل، وتحجب الرؤية الحقيقية للتعامل مع هذه النوعية من القضايا الحياتية، الأمر الذى يضاعف من حجم المأزق الذى نعيشه، ويوسع دائرة الاستسهال، التى أصبحت سائدة، ويزيد من مساحة التغييب، ويمنح ذوى الثقافة المحدودة، فرصة للانتشار والوجود فى الفضاء العام، على حساب أصحاب الرؤى العلمية، بما يفرض عليهم الانزواء، حبا أو كرها.

الموضوع الثالث، خاص بمعرض الكتاب المنتظر افتتاحه الشهر المقبل، وكل المقدمات تشير إلى أن هناك سلسلة كبيرة من المشكلات تلاحقه، وتهدد بفقدان مكانته الدولية، بدءا من ارتفاع تكاليف إنفاق دور النشر وطباعة الكتاب، بسبب تزايد سعر الدولار، وحتى اختيار الضيوف والمتحدثين فى الندوات، فهناك حالة من التململ فى صفوف الناشرين العرب والمصريين، ورغبة عارمة لدى كثير من المثقفين فى عدم الحضور، فحتى الآن لم يتم حل الأزمات الهيكلية، التى تهدد أهم المعارض الدولية للكتاب، بعد معرض فرانكفورت.

كما أن الرسائل التى وجهها عدد محدود من المثقفين لرئيس مجلس الوزراء، للتحرك وإنقاذ المعرض، لم تجد صدى عنده، ولا اهتماما بالطبع من جانب وزير الثقافة، مع أن عدم حل المشكلات التى يواجهها المعرض، تنذر بالتأثير على مكانته، عربيا ودوليا، فى وقت تزداد بعض المعارض الأخرى بريقا، وهو ما يفقدنا واحدة من قوانا الناعمة، ويؤكد أن وزارة الثقافة، هى من تسهم فى معركة تغييب العقل، وإذا كانت الجهة المنوط بها التنوير، تقف عاجزة، أمام مشكلة بسيطة تتعلق بتنظيم معرض له سمعته الدولية، فكيف نطالبها بأن تلعب دورا محوريا فى معارك، محاربة الإرهاب، ومحو الأمية الثقافية، وفتح آفاق واعدة لاستعادة الريادة المصرية؟

الاستنتاجات التى يمكن التوصل إليها، من النظرة الأولي، للموضوعات الثلاثة السابقة، تقودنا إلى أن هناك ما يشبه الارتياح الرسمي، لحالة التغييب والانسداد والانغلاق الراهنة، فلو كانت مؤسسات الدولة تدرك حجم الخطورة المترتبة على قيام البعض بالترويج لسيادة ثقافة الجهل على حساب العلم، لما وقفت مكتوفة الأيدى فى مواجهة من تجرأوا على الإساءة للدولة، وعملوا على تقزيم دورها الثقافي.

وتقودنا أيضا، إلى الشعور بعدم وجود إرادة لتطوير أداء مؤسسات الدولة، تتناسب مع الرغبة المعلنة فى التقدم، ففى الوقت الذى نرى تحركات لاستعادة الدور الإقليمى لمصر، لا نجد لذلك صدى على المستوى المحلي، يعزز المحاولات الرامية للوصول لهذا الهدف، كأن هناك جهتين متصارعتين، إحداهما تقود العربة للأمام، وأخرى تصمم على شدها للخلف.

فى هذا السياق، بدأ البعض يشعر بأن عددا كبيرا من المسئولين، والنخب الثقافية والإعلامية، فقدوا الإحساس بحجم الدور الإيجابى المفترض أن يقوموا به، فى مجال التوعية والرشادة، واقتصرت مهمتهم على نشر الخرافات، والسعى لتغييب العقل، خوفا من أن يطيح بهم المثقفون الحقيقيون، والتصميم على الحياة فى كنف تعميم الجهل، الذى لا يعمل الكثير من المسئولين على مكافحته.

يقينى أن أى تقدم يحدث، هو نتاج محاولات فردية، ولا يعبر عن خطة إستراتيجية، بدليل أنك فى المؤسسة الواحدة، مهما كان نشاطها، تجد فئة مجتهدة، مقابل مئات الكسالي، من المديرين والموظفين، وهذه الفئة نستمد منها الأمل، إلى أن يأتى يوم وتصبح هى الأغلبية، وتعمل وفقا لرؤية، توقف زحف عمليات تغييب العقل.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف