الوطن
د. محمود خليل
وصلوا إلى «نجيب محفوظ»!
سؤال: ما أكثر ما يميز الخطاب الذى يتسكع فى المجال العام فى مصر حالياً؟. الإجابة: الجرأة على الكلام، الجرأة التى تصل إلى حد الوقاحة فى بعض الأحوال، تبدأ الجرأة بالإقدام على سرد معلومات غير دقيقة، أو خاطئة بالمرة، أو لم يتسنَ لقائلها التأكد منها، ثم ينطلق اللسان المتجرئ بعد ذلك إلى السباب وكيْل الشتائم. يحدث هذا من جانب إعلاميين ومسئولين سياسيين ونواب شعب. الكل يستوى فى هذه الحالة من حالات المراهقة، خصوصاً عندما يجد نفسه متحدثاً بين المجموع أو إلى المجموع.

أحد النواب تبنّى فكرة تطبيق عقوبة خدش الحياء على الأعمال الفنية والإبداعية، من منطلق أن من يرتكب إحدى جرائم خدش الحياء فى الواقع المعيش يُعاقب طبقاً للقانون. رفض بعض النواب المقترَح، فدار بينهم وبين صاحب الفكرة حوار لطيف، إليك جزء منه: «قال صاحب الفكرة: هل يعنى الإبداع أننى أقوم بتصوير حالة جماع كامل على الشاشة.. فقاطعه المعترض: يعنى قصر الشوق والسكرية خدش حياء.. فرد صاحب الفكرة: أيوة السكرية وقصر الشوق فيهم خدش حياء، ونجيب محفوظ يستحق العقاب.. بس محدش وقتها حرك الدعوى الجنائية».

الفقرة السابقة نموذج على فكرة «اللسان المتجرئ»، ويبدو الحوار فيها أقرب إلى حوار الطرشان، ويصح أيضاً أن تصفه بأنه «سمك لبن تمر هندى»، صاحب الفكرة احتج بقصة الجماع الكامل على الشاشة، دفاعاً عن وجهة نظره، تأمل كلامه ستجد أننا أمام عقل لا يستوعب الفرق بين أفلام «البورنو» وأفلام السينما، أراد نائب رافض -يظن بنفسه المكر- توريط صاحب الفكرة، فسأله هل «قصر الشوق» و«السكرية» خدش للحياء، من منطلق أن الموضوع يمكن أن يتحول إلى قضية كبرى، إذا جاء فيه ذكر للأديب العالمى «نجيب محفوظ»؟. النائب المكار لم يُفرّق بين النص الروائى لـ«الثلاثية» والأفلام الثلاثة التى عالج كل منها أحد أجزائها، نحن هنا أمام عقل متجرئ آخر، فلو قرأ صاحب هذا الكلام «الثلاثية»، فسيعلم أن الأفلام فارقت النص فى مواضع عدة، وأن نجيب محفوظ لم يكتب سيناريو هذه الأفلام، بل كتبها عقل مبدع آخر، أضفى عليها رؤيته وهيّأها للتحول من نص مطبوع إلى نص بصرى. هل سكت صاحب المقترح.. طبعاً لا.. فقد وقع فى «الخية»، واتهم نجيب محفوظ بخدش الحياء فى «السكرية» و«قصر الشوق»، فانتقل من التجرُّؤ إلى سلاطة اللسان.

عندما يصبح اسم نجيب محفوظ وإبداعاته الأدبية فى مرمى القصف، فلا بد أن تعلم أن عقل هذا المجتمع ووجدانه يعيش حالة غير مسبوقة من الاضطراب. فنجيب محفوظ عمود من الأعمدة التى يرتكز عليها العقل والوجدان المصرى. وثلاثيته التى كانت مثاراً لهذا الجدل المتجرّئ تعد وثيقة فريدة للتاريخ الاجتماعى للمصريين خلال النصف الأول من القرن العشرين. نحِّ هذا جانباً، وتذكر أن نجيب محفوظ هو الأديب العربى الأوحد الذى فاز بجائزة نوبل، وعندما يصبح مثل هذا الرجل، الذى حقّق نجاحاً لم يُحققه مصرى غيره، مادة لحوارات من النوع الذى ذكرته، ويتجرّأ عليه أشخاص ربما لم يقرأ أحدهم سطراً له، يبقى فى حاجة غلط!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف