(1)
“مصر تستيقظ”
أظنكم تذكرون ذلك المانشيت الذي اجتمعت عليه معظم الصحف غداة افتتاح المؤتمر الاقتصادي، لقد قفز العنوان إلى ذهني بعد مشاهدتي للفيلم الوثائقي الذي بثته قناة “الجزيرة” عن التجنيد الإجباري في مصر بعنوان “العساكر”، لم أتذكر ذلك التعبير (مصر تستيقظ) على سبيل السخرية، ولا في نفس السياق الدعائي الذي استخدمته الصحف، لكنني وجدته أنسب تعبير للحظة فوران الوعي، وتفجير صناديق الأسرار المسكوت عنها في حياتنا، وتحويل المداولات الشفوية إلى وثائق ومدونات رسمية ومعلنة، وأظن أن كلامي لا يزال غامضا، ويحتاج إلى بعض الشرح فاصبروا معي.
(2)
قبل أن أقول رأيي في الفيلم، أحب أن أوضح نقطة مهمة، وهي أنني ضد الانقسام الذي سبق عرض الفيلم، والذي تلاه أيضا، بل ضد أسلوب الانقسام إلى فرق متناحرة في أي قضية، فكل قضية لها جوانب سلبية وأخرى إيجابية، وكذلك المؤسسات، والبشر، والدنيا بأسرها، فالكمال لله وحده، وبالتالي لا أحب أن أتورط في تقديس أي فكرة، أو مؤسسة، أو شخص، ولا أحب شيطنتها أيضا، لكن المحزن أن قطاعات كبيرة في مجتمعنا تنقسم دائما بين “التربص” و”التبرير”، بين “المدح” و”القدح”، لكنني متفائل بأن هذه الحالة الانقسامية الحادة لن تطول، لأن “مصر تستيقظ”، ولا يهم أنها تستيقظ من تلقاء نفسها متحمسة للعمل الجاد والتطور، أو أنها تستيقظ استجابة لنداء زعيم يهتف: “قوم يا مصري.. مصر دايما بتناديك”، أو أنها تستيقظ مفزوعة على صرخات مخيفة، وإحساس بخطر يداهمها، كما في حالة الفزع من مجرد فيلم وثائقي يحكي فيه عدد من الجنود عن ملاحظات سلبية، يعرفها الملايين، بل وتسجلها أغنياتنا الشعبية، كما تسجل المفاخر والبطولات في مقابلها، وهذا لا ينفي ذاك.
(3)
ذات صباح، ينتشر في الوحدة العسكرية خبر مقتل جندي داخل الثكنة، ويتم توجيه التهمة لاثنين من زملائه، ويسعى العقيد قائد الكتيبة لاستخراج تصريح دفن، واحتواء الموضوع، لعدم الشوشرة، حيث أنه مرشح لمنصب مهم في مجلس الأمن القومي، لكن القضية تتفجر، بعد أن يكشف تقرير الطب الشرعي أن الجندي مات مسموماً، ومع تصاعد الفضيحة يعترف الجنديان أنهما تسللا ليلاً إلى مبيت زميلهما لمعاقبته على تخاذله في التدريبات، وعلى وشايته ببعض زملائه في رسائل للقيادة العليا، فأرادا تأديبه بعد استئذان القائد، واتفقا على تقييده وحلاقة شعره بالموسي، وكتما فمه بمنديل مبلل حتى لايصرخ، لكنهما فوجئا بالدم يخرج من فمه، وأكد كل منهما أن المنديل لم يكن به أي مادة سامة.
(4)
تتابع أحداث الفيلم الأمريكي “حفنة رجال طيبين” لتكشف عن وجود قانون غير رسمي، متداول بين جنود مشاة البحرية (مارينز) يسمى “العقاب الأحمر”، وهو القانون الذي استخدمه العقيد جيساب (جاك نيكلسون) لتصفية الجندي سانتياجو الذي كان يهدد طموحه في الحصول على المنصب الجديد في مجلس الأمن القومي، حيث وقعت في يده رسالة يطلب فيها الجندي من القيادة نقله إلى وحدة أخرى، مقابل الإدلاء بمعلومات عن مخالفات عسكرية شاهدها في خليج جوانتانامو بكوبا، فأوعز العقيد إلى رجاله بتأديب الجندي حتى يصبح رجلاً، لأن الجندي الشكاء الذي لا يتحمل المسؤولية برجولة يهدد حياة زملائه، وتم تبليل المنديل بالمادة السامة دون علمهما، وأوكل إليهما مهمة تأديب سانتياجو: عليكم تدريبه على الرجولة، بدلا من نقله إلى مكان آخر فيؤذي حياة آخرين، وفي نهاية الفيلم يكشف المحامي (توم كروز) للمحكمة قصة “العقاب الأحمر” التي يتعامل بها جنود المارينز كعقيدة وسلوك خارج القواعد الرسمية المعترف بها، ويتم حبس العقيد جيساب.
(5)
أحكي هذه القصة كنموذج بسيط لنقد الجيش الأمريكي في السينما الأمريكية ذاتها، طالما أن الهدف هو كشف العيوب لإصلاحها، فالأفلام والمقالات مهما كانت قوتها، لن تهزم الجيوش، الذي يهزم الجيوش هو الأخطاء التي لا يتم إصلاحها، لهذا فإن أي جهة غير عسكرية تكشف عن خطأ في جيش، فإنها في حقيقة الأمر لا تحطم معنوياته ولا تفضحه، بل تمنحه فرصة عظيمة لسد ثغراته وإصلاح عيوبه، فليست هناك مؤسسة معصومة من الخطأ، وليست هناك مؤسسة أزلية لا تحتاج إلى تطوير، مفاهيمها وأدواتها وبرامج تدريبها وحوافزها في الثواب والعقاب، وأظن أن جيش مصر باحترافيته ونظاميته أحق من غيره في المنطقة بالتعامل مع مفاهيم التدريب وإصلاح المفاهيم، ومن هذه النقطة يمكنني أن أبداً مناقشة فيلم “العساكر”.
(6)
لا أعتبر “العساكر” فيلماً، بل “صفارة إنذار”، وبهدوء أكثر يمكن أن أعتبره “نوبة صحيان”، لأنه بصرف النظر عن جهة إنتاجه وعرضه، فيلم مصري تماما، فالمتحدثون مصريون، والقضية مصرية، والمخرج (عماد الدين السيد) شاب من خريجي كلية الصيدلة جامعة الاسكندرية، عمل بقناة الجزيرة مباشر من القاهرة وظهرت لديه ميول إخوانية، (هذا ليس عيباً لكنه معلومة تفيد في التحليل)، وعقب إطاحة الرئيس مرسي وفي أجواء فض اعتصام رابعة، سافر السيد إلى الدوحة، وواصل عمله في البرامج الوثائقية، لكنه في هذا الفيلم يبدو أقل كثيراً في الفكرة، وفي المادة المصورة، وفي البناء الفني والإخراج من فيلمه الأشهر “المندس”، لكن “العساكر”حقق جماهيرية أكبر بفضل غباء إعلام الموالاة في مصر، الذي يبالغ في كل شئ ليثبت الولاء لأسياده، وبالتالي لا يعبأ بمدى ما يقدمه من خدمات دعاية مضادة لهؤلاء الأسياد وللنظام كله، وأحيانا لمصر شعبا وجيشا!.
(7)
النقطة الثانية التي أدت إلى شهرة فيلم “العساكر” تتعلق بالموضوع ذاته، فالفيلم ينزع القداسة ويكسر حاجز السرية في عرض معلومات تتعلق بمؤسسة ظلت طويلا تحت أغلفة ملفات “سري للغاية”، وخلف لافتات ممنوع الاقتراب والتصوير، ولهذا فإن التصوير نفسه يكفي لجذب الانتباه، وكذلك تصبح الأحاديث التي يتداولها المجندون فيما بينهم، أكثر إثارة إذا تم بثها على الشاشات، مع حجم الدعاية الضخمة التي تبرع بها إعلام العباسيين الأغبياء في مصر، لكن جرأة طرح القضية وحدها، لا تكفي لصناعة فيلم مهم، والمؤسف أن الفيلم اكتفى بعرض المسكوت عنه والمتداول بين الشباب، ولم يذهب لأعمق من ذلك، فلم يناقش الفيلم أي فكرة أو ملاحظة حتى عنوانه والتمهيد الذي أوحى للمشاهد أنه سيناقش سلبيات التجنيد الإجباري، لكن الشهادات استمرت سطحية وتراكمية لا تتصاعد درامياً، ولم يتعب صناع الفيلم أنفسهم بتقديم خدمة معلوماتية من خارج الشهادات والمواد الوثائقية العادية، ولا تفنيد الشكاوى والملاحظات التي قدمتها النماذج التي وافقت على الحديث بعد إخفاء هويتها بالتصوير المظلم، وبعدم ذكر الأسماء، فاستمر الفيلم كأنه جلسة شكوى بين مجموعة من المجندين اجتمعوا بالصدفة ومن غير تخطيط مسبق في مقهى أو أتوبيس عام.
(8)
لم أكن أخشى من جرعة التحريض في الفيلم، لأنها لو ظهرت ستحطم مصداقية العمل الوثائقي، وتنال من شحنة التوصيل، لذلك كنت أخشى من العمق والموضوعية عند تناول نقاط الضعف التي يجب أن تهتم المؤسسة العسكرية بإصلاحها، ليظل الجيش المصري في ترتيب متقدم بين الجيوش النظامية الاحترافية حسب معايير العصر، لكن الفيلم كان ساذجا إلى حد أنه خلط بين قسوة التدريبات وضرورات إعادة تأهيل وتطويع المواطن المدني ليناسب المهام العسكرية، وبين المخالفات غير المسموح بها في الثكنات، فالمشاهد التي تتعلق بتنظيف الثكنات وتجهيز الطعام وتربية المواشي والدواجن، لا تسئ لأي مؤسسة عسكرية، بل تدل على أنها مجتمع متكامل يعتمد على نفسه، وبالتالي كان لابد من حذفها، وعدم وضعها ضمن المخالفات التي تخرج عن “الميري” وفي مقدمتها أسلوب “السخرة”، واستخدام الجنود كعبيد لخدمة أسيادهم من القادة وليس لخدمة الوطن (العساكر السيكا)، كما لم يستطع الفيلم أن يفرق بين تطويع الجندي وبين إهانة كرامته، وعلى سبيل المثال فإن الزحف وجمع القمامة والفحوصات الطبية، لا يمكن اعتبارها تجاوزات أخلاقية ولا انتهاكات جنسية، بل سلوكيات جيدة تختلف عن سلوكيات الامتهان والعبودية من نوع: سيب كرامتك في بيتكم، وحط شهادتك تحت جزمتك، وإن جالك الموت في الجيش اختاره الأول، وكثير من العبارت التي يحفظها المجندون، والتي يجب تصحيحها لأن مصر لن تسمح بذلك بعد أن “تستيقظ”.
(الخلاصة)
الفيلم لم يكن سمكة كبيرة، لكنه كان مجرد طعم لاصطياد هذه السمكة، فقد نجح في فتح قضية مسكوت عنها، واستدرج إعلام النظام لإلقاء الضوء بنفسه على منطقة مسكوت عنها، لم يكن أي إعلامي يحلم بالخوض فيها بهذه الكثافة، وهذا التوسع يفرض على العقلاء أن يبدأوا التفكير في التطوير، فالسلبيات قد جرت على الألسنة، وإصلاحها لن يكلف الكثير، بالعكس سيوفر على المؤسسة العسكرية الكثير والكثير، ويقدم لها خدمة تطوير نفسها، وأظنها قادرة على ذلك، إذا أحسنت التلقي، وأجادت الاستجابة، وأخلصت النية والعمل.
عاشت مصر حرة.. شعباً يأمل ويعمل، وجيشا يحمي ويصون.