أحمد بان
ماتبقى من وظائف الدولة فى مصر
يتلفت المواطن المصري حوله باحثا عن الدولة ملتمسا أدوارها، فلا يرى سوى عضلاتها فى الداخل تكاد تعتصره صباح مساء، سواء مر من أمامها أو من خلفها أو حتى حاول أن يتجنبها، فقد أصبحت عضلات الدولة وأعنى وسائلها فى القمع تطل على كل مشاهد حياته، ولعلنا جميعا ندرك أن ثورة الناس فى يناير كانت ثورة ليست فقط على نظام فاسد مستبد، جرف مقدرات هذا البلد وحفر له مكانه فى القاع، بل ثار الناس لكرامة هذا البلد ولكرامة هذا المواطن الذى سحقت كرامته تحت مطارق جهاز الشرطة، الذى لم تتوقف مظالمه ساعة من ليل أو نهار فى بر مصر، سوى لوقت قصير عبرت عنه مرحلة انتقالية يبدو أنها كانت هى الأخرى جزءا من خطة تركيعية وتأديبه.
يجمع علماء السياسة أن للدولة أدوارا مميزة لسلوكها دونها لا ينطبق عليها وصف دولة، أو بمعنى آخر لها وظائف أساسية تلخصها رعاية النظام السياسي عبر المؤسسات لحياة المواطنين ومقدراتهم ماداموا متمتعين بجنسية هذا البلد.
تنهض الدولة بثلاث مهام رئيسة الأولى تتعلق بالأمن بشقيه الخارجى والداخلى، حيث ينهض بالدور الأول جيش قوى محترف، تخصص له المخصصات اللازمة لكفالة مستوى لائق من التسليح والتدريب والتأهيل، بالشكل الذى ينظمه القانون والدستور اللذان ينظمان سبل الرقابة على كل ذلك، وعلى ذكر ما تعرض له الجيش من لمز حول التجنيد الإجبارى، فهو أمر تعارف عليه هذا الشعب عبر تاريخ طويل، احتل فيه الجيش مكانا خاصا فى عقل ووجدان المصريين، وربما كان من تلك الأسباب التى جعلت هذا الجند فى رباط الى يوم القيامة، لذا سيبقى التجنيد إجباريا ولايمنع ذلك من أن يكون جيشنا محترفا له ترتيب عالمى نسعى أن يتحسن دوما للأفضل، أما الوظيفة الثانية وهى وظيفة الأمن الداخلى، فتنهض بها وزارة الداخلية التى لا يستطيع منصف أن يدعى أنها تقوم بأدوارها بشكل قانونى ودستورى وإنسانى لائق، وإلا فلتستأنف الوزارة نشر تقرير الأمن العام السنوي لتقول لنا حالة الأمن العام، وهو ما يتعلق بأمن المواطنين فى حلهم وترحالهم فى الداخل، ولنسأل عن قسم المرور الذى استقال من الخدمة إلا من جمع الإتاوات فى مواسم وأوقات محددة يعرفها الجميع، حيث يبدو أن هذا القسم بالذات أخلص الأقسام فى معاقبة المصريين على ثورتهم فى يناير.
تأتى الوظيفة الثانية المتعلقة بضمان سير العدالة والقضاء الناجز، بإصلاح المنظومة القضائية فى مصر وهو أمر كان من مطالب المصريين فى يناير، لكنه توارى بعد أن تحولت معركة القضاء الى الصراع مع جماعة الإخوان وعقابها على جرائمها بحق القضاء فى عام حكمته، فماذا عن عقود مارس فيها القضاء ولازال يمارس أدواره التى تحتاج فى ظنى إلى مراجعة شاملة تأخرت كثيرا، جزء من مهام الدولة ضمان سير العدالة أو منظومة العدالة التى تكتمل بالقضاء والوظائف المرتبطة به، نأتى إلى أدوار العلاقات الدولية التى عمادها تحقيق المصالح الوطنية العليا لهذا البلد وتقلده المكان المناسب، هل يشعر أحد من المواطنين أن لدينا وزير خارجية أو بالأحرى وزارة خارجية، تفعل شيئا أبعد من التبرير الدورى لقنوات التوك شو لماذا تأخر بيان وزارة الخارجية حول أمر ما، أو لماذا لم نرى رد فعل الخارجية حول انتهاك لكرامة البلد أو مصالحه، الحقيقة لم نشهد خلال عامين سوى ثورة وزير الخارجية على ميكرفون الجزيرة، فيما عدا ذلك لم نر شيئا لافتا يمكن تقييمه، تأتى بعد ذلك فى سياق الوظيفة الاقتصادية للدولة والتى عبر عنها عالم الاقتصاد الأمريكى ريتشارد موسجريف، باعتبار أننا نأخذ بالرأسمالية حيث عدد وظائف ثلاث أولها تقسيم الموارد عبر إنتاج النفع العام وتقديم الخدمات، التى تضمن الرفاة مثل الطرق والبنية التحتية والتعليم والصحة، ثم وظيفة إعادة التوزيع أى إعادة توزيع الدخل العام وثروة المجتمع، بما يخدم تحقيق العدالة وتقريب الفجوات بين المواطنين وتقليص معاناتهم وإنهاء عدم المساواة، ثم تأتى الوظيفة الثالثة التى أسماها التنظيم الذى يكفل تحفيز الاقتصاد وتنويع النشاط الإقتصادى وضمان سياسة مالية راشدة، لا أظن أن من بينها الاستسلام لشروط صندوق النقد الدولى وتعويم الجنيه بتلك الطريقة.
عندما نطالع تلك الملامح المختصرة لأدوار الدولة ونسقطها على واقعنا فى مصر، نجد أن الخرق إتسع على الراتق قل لى أين ترى الدولة سوى فى القمع وتحصيل المكوس والضرائب، هل تعرفت على الدولة فى طريق يحظى بتأمين مرورى أو شرطى؟ هل لجأت إلى الشرطة فى مظلمة أو شكوى أو جريمة ووجدت إنصافا أو معاملة لائقة؟ أو شخصا أبدى الحد الأدنى لمساعدتك على نحو لائق؟ هل تلتفت فوجدت الدولة فى تعليم لائق أو علاج يحفظ كرامتك حيا أو حتى ميتا؟ حيثما يممت وجهك صفعتك أيادى الدولة الممدوة لك بالعقاب، فهل مرجع ذلك الفساد أم الاستبداد أم ضعف الكفاءة أم غياب الرقابة أم كل ذلك وغيره؟.
الحقيقة أننا شبه دولة ولم نفعل شيئا حتى الآن لنكون دولة حقيقة راشدة، بالرغم من جبال الأغانى الوطنية التى أنجزناها وبالرغم من أننا تاريخيا أقدم دولة فى الأرض، ما كان يقتضى أن تكون أحوالنا أفضل من ذلك، هذا الكلام ليس دعوة لليأس وليس نشرا للإحباط، لكنه طرق لأجراس الخطر، لنا جميعا مصلحة فى أن تبقى هذه الدولة كيانا حيا قابلا للحياة والنمو، نظاما مفتوحا يؤثر ويتأثر وليس جثة هامدة حتى لو امتد جسدها بين الخافقين ورقص فوق جثتها من يتغنون الآن بمجدها الزائف.