الجمهورية
د. محمد مختار جمعة
عمالقة وأقزام
الكبير كبير. والشريف شريف. والعظيم عظيم. والصغير صغير. والقزم قزم. والأسماء لا تغير طبيعة المسميات. والأزياء لا يمكن أن تغير جلد لابسيها. وطلاء المعادن لا يقلب حقائقها. علي حد قول المتنبي:
وهبني قلت هذا الصبح ليل أيعمي العالمون عن الضياء
وعلي حد قول الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري الملقب بمتنبي القرن العشرين في قصيدته التهكمية الساخرة التي أنشأها تحت عنوان ¢طرطرا¢. حيث يقول:- مع إدخالنا بعض التعديلات اليسيرة علي نصه:
أي طرطرا تطرطري
وألبسي المخانيث
اعطي سمات فارع
واغتصبي لضفدع
وعطري قاذورة
وشبهي الظلام ظلما
وألبسي الغبي والأحمق
وللمفاخر اشتري
وللتاريخ زوري
دروع عنتر
شمردل لبحتر
سمات ليث قسور
وبالمديح بخري
بالصباح المسفر
ثوب عبقري
فللتاريخ لن تغيري
وعلي حد قول المتنبي يخاطب سيف الدولة الحمداني. محذرا له من اختلاط الأمور عليه بين الممتلئ قوة والمترهل سمنة ومرضا. حيث يقول:
اعيذها نظرات منك صادقة.. ان تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم
ولله در أديب العربية الكبير مصطفي صادق الرافعي. حيث يقول: ولا يقذف بالأحجار إلا الشجرة المثمرة ولا يقذفها إلا الصبية. أما الرجال فيستحون. ولا يحوم اللص إلا حول البيوت العامرة. فإن حام حول البيت الخرب كان سيد البلهاء.
ويقول القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني في مقدمة كتابه ¢الوساطة بين المتنبي وخصومه¢: وأهل النقص فريقان: فريق يعمل علي جبر نقيصته وستر عورته. وهذا أمر حسن لأنه قد شغل بأمر نفسه ويعمل علي إصلاح حاله وشأنه. أما الفريق الآخر من أهل النقص فقد قعد به عن الكمال عجزه أو اختياره. أي ضعفه أو كسله. فلم يجد شيئا أجبر لنقصه واستر لعورته من انتقاص الأماجد وحسد الأفاضل. ظنا أن ذلك قد يجرهم إلي مثل نقيصته أو ينزل بهم إلي مستوي درجته.. علي أنني أؤكد أن وصف العمالة والأقزام هنا لا علاقة له بالجسم. أو الطول أو القصر. أو البنية الجسمية. فرب قزم في جسده خير من ألف عملاق في همته وعمله. حيث يقول نبينا "صلي الله عليه وسلم": ¢إن الله لا ينظر إلي صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلي قلوبكم وأعمالكم¢. فبهذا المعني للعمالقة والأقزام نؤكد أن العمالقة لا يعرفون سوي البناء. ولا يحسنون الهدم. ولا يمكن أن ينشغلوا به أو ينجروا إليه. فهم لا يلتفتون إلي الوراء إلا بقدر استخلاص العبر والدروس. سبيلهم العمل. ثم العمل. والانتاج ثم الانتاج. والمروءة ثم المروءة. والشرف ثم الشرف. أم الأقزام المعنويون فلقصر باعهم عن البناء وصغر نفوسهم عن أن تنزل نفسها مكانة أو منزلة راقية التي تستحقها. بل لمرض في هذه النفوس فإنها تتخذ من محاولات هدم العمالقة منهجا ومسلكا.
مع تأكيدنا أن الهدم والتخريب لا يقره دين ولا خلق. ولا عرف ولا إنسانية. وأن صاحب النقص لو بذل في بناء ذاته نصف ما يبذله من محاولات في هدم الآخرين من فكر وجهد ووقت وربما مال لغير من وضعيته وحسن من منزلته ومكانته. أما إذا استمر في حقده وغله وحسده فإن نار هذا الحقد والحسد ستأكله يوما ما. ولله در أبي تمام حيث يقول:
أصبر علي كيد الحسود فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله
علي أن هذا التحاسد الذي يدفع إلي الانتقام لا ينفع الحاسد بل يضره. ولا يغير ممما كتب للمحسود. لأن الأمور كلها لله وبيده. وليس للإنسان إلا ما قدر له. ومن كان مع الله كان الله معه.
وإذا العناية لاحظتك عيونها .. نم فالمخاوف كلهن أمان
فليعمل العاملون دون التفاف للخلف أو توقف عن المسير. وليتق الله أولئك الحاقدون المعطلون. لأن الحاقدين لا يهلكون إلا أنفسهم حقدا وغلا وغما ¢يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين¢
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف