لا يُقاس العامل الحاسم في تقدم الأمم وتخلفها؛ بالأشخاص المسئولين، وإنما بالمعايير المتبعة، فليس مهما مَنْ يحكمنا، لكن السؤال بِمَ يحكمنا، وكيف يحكمنا؟
إن معايير تقوى الله، ولزوم العمل الصالح، والعدل والمساواة والأخلاق، والالتزام بالقانون، وغيرها من المعايير، إنما تتقدم بالحياة، وترقى بها، دون تفضيل لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض، ولا لمصري على هندي، ولا لهندي على صيني، إلا بالالتزام بتلك المعايير، وفي ذروتها: "تقوى الله"، فهي معيار المعايير، وميزان الموازين، ومقياس التفاضل، عنده سبحانه، دنيا وآخرة.
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ". (الحجرات:13).
لقد خلق الله، الخلق، ذكرا وأنثى، من جنس واحد، يرجعون إلى آدم وحواء، عليهما السلام، لكنه جعلهم شعوبًا وقبائل ليتعارفوا، فأكرمهم عند الله؛ هو أتقاهم، أي أكثرهم طاعة له، وابتعادا عن معصيته.
فليس الأكرم عند الله من ينتسب إلى شعب أو عرق أو لون أو جنس ما، وإنما كرم المرء، ومنزلته، ودرجته، إنما هي بتقواه. فكلما كان أتقى لله كان عنده أكرم. قال العلماء: "أكرمهم عند الله أطوعهم لله، وأتبعهم للقرآن".
وفي مسند الإمام أحمد عن رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال، بِمِنًى فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ عَلَى بَعِيرٍ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، أَلا وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، أَلا لا فَضْلَ لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلا بِالتَّقْوَى، أَلا قَدْ بَلَّغْتُ؟ "قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ". (حديث صحيح)
المعيار الثاني هو القلب السليم، والعمل الصالح.. فبهما يتم التمايز والتفاضل أيضا بين البشر. ففي الحديث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضى الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ". (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). وفي رواية: "إن الله لاينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". (رواه مسلم).
قال الألباني: "زاد مسلم وغيره فى رواية: (وأعمالكم)، وهذه الزيادة مهمة جدا؛ لأن كثيرا من الناس يفهمون الحديث بدونها فهما خاطئا، فإذا أنت أمرتهم بما أمرهم به الشرع الحكيم من التكاليف الشرعية، أجابوك بأن العهدة على ما فى القلب، واحتجوا على زعمهم بهذا الحديث، دون أن يعلموا بهذه الزيادة الصحيحة، الدالة على أن الله تبارك وتعالى ينظر أيضا إلى أعمالهم، فإن كانت صالحة قبلها، وإلا ردَّها عليهم".
قال الله تعالى في حق المنافقين: "وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ". (المنافقون: 4). فهؤلاء المنافقون لم يحل بهاء صورتهم دون أن يكون مصيرهم النار؛ نتيجة نفاق قلوبهم، وأعمالهم الخبيثة.
وكذلك أوصى الله، الأمَّةَ، بلزوم العدل، وإقامة القسط، حتى لو كان ذلك على حساب المرء. قال تعالى: "يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ".(المائدة: 8).
وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا".(النساء:135).
قال الزمخشري: "تنبيه عظيم على أن العدل إِذا كان واجباً مع الكفار الذين هم أعداء الله، بهذه القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه، وأحباؤه؟".
وجعل الله "العدل" مدار الرسالات، فقال: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ".(الحديد: 25).
قال ابن القيم في تفسير هذه الآية: "إن القسط هو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله، ودينه، ورضاه، وأمره".
وقال ابن تيمية: "أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة، وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة، وإن كانت مسلمة. ويقال: "الدنيا تدوم مع العدل، والكفر، ولا تدوم مع الظلم، والإسلام".
وقال ابن تيمية أيضا: "ذلك أن العدل نظام كل شيء؛ فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة".