الأهرام
د.محمد مختار جمعه
العصبية العمياء
دعا الإسلام إلى كل ما يعمق الروح الإنسانية، وحسن الخلق، وحسن المعاملة، والتعايش السلمي بين البشر، وحذر من كل ألوان الكبر والعجب والاستعلاء والعصبية العمياء، والتفاخر بالأحساب والأنساب، فقال نبينا صلى الله عليه وسلم في خطبته الجامعة في حجة الوداع: “ كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى”، ويقول صلى الله عليه وسلم: “ ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن “، ويقول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يُقَاتِلُ عَصَبِيَّةً وَيَغْضَبُ لعصبةٍ فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ “. ويقولون من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول عن سيدنا سلمان الفارسي “سلمان منا آل البيت”، وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل لعمل أولى برسول الله صلى الله عليه وسلم، منا يوم القيامة.

فإذا انتقلنا من الصحابة إلى التابعين وتابعي التابعين من الفقهاء والعلماء وجدنا سعة الأفق وقبولاً للآخر شخصًا ورأيًا، حيث كان الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، بل إن بعض الفقهاء قد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بما قرروه من أن كلا الأمرين قد يكونان على صواب، غير أن أحدهما راجح والآخر مرجوح، وأن الأقوال الراجحة ليست معصومة، كما أن الأقوال المرجوحة ليست مهدومة، طالما أن لصاحبها حظًا من الاستدلال والنظر والدليل الشرعي المعتبر.

كما قرر الفقهاء أن المختلف فيه لا ينكر إنما ينكر على من خرج على المتفق عليه إجماعًا، بفعل المتفق على وجوب تركه أو ترك المتفق على وجوب فعله أو فتواه بهذا أو ذاك، أو دعوته إليه، ولعل المثال الأبرز في هذا الشأن هو فهم الصحابة رضوان الله عليهم، لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، فمن أخذ النص على ظاهره أخّر العصر حتى الوصول المكاني إلى بني قريظة، ومن فهم أن القصد هو الحث على الإسراع والجد في المسير قالوا إنما أراد النبي، صلى الله عليه وسلم، الإسراع وعدم التأخر، فصلى هؤلاء العصر في وقته، وأجّل هؤلاء الصلاة حتى وصولهم إلى ديار بني قريظة، فلم ينكر النبي، صلى الله عليه وسلم، على هؤلاء ولا على أولئك.

على أن قبول الآخر أو رفضه يقوم على أمور، أهمها:

1- مدى الفهم والفقه وسعة الأفق، فكلما اتسع أفق الشخص أو العالم أو الفقيه أو طالب العلم ، كان أكثر التماسًا للأعذار وتقديرًا للمواقف، وكلما ضاق أفقه ووقف عند الرأي الذي لا يعلم غيره تشدد وتشدق وانتفخ عصبية وعجبًا، أو قد قالوا : أنحى الناس من لا يخطئ، ذلك أنه يعرف الوجوه المتعددة التي يمكن أن يحمل عليها النص أو الضبط.

2- مدى التجرد أو النفعية، فكلما كان المرء أكثر تجردًا كان أقل عصبية إلا للحق وبالحق، وكلما سيطرت النفعية على الشخص دفعته وقادته إلى العصبية العمياء.

3- الانتماء للجماعات الأيدلوجية المتطرفة التي لا تقيل من عناصرها غير التبعية العمياء واستسلام العقل، ومحاولة تأليه المرشدين، لتنسحب الطاعة العمياء في أمور الدين على الطاعة العمياء في سائر الأمور باعتبار كلام المرشد والأمير كله دينًا، وهو ما جر هذا الشباب المغرر به إلى استباحة الدماء والتخريب والإفساد دون تفكير في الدين أو إعمال للعقل، مما يؤكد أن هذه الجماعات الأيدلوجية المتطرفة كلها خطر شديد على الدين والوطن، وأن العمل على كشف حقيقتها وتفنيد أفكارها والعمل على تفكيكها فكرًا وبناء واجبًا شرعيًا ووطنيًا.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف