أمانى هولة
طوابير الحياة.. (حكايات وطن 95)
هناك بعض التفاصيل الحياتية اليومية التى يمكن اعتبارها مؤشراً لتحضر وارتقاء البشر رغم بساطتها وتلقائيتها أحياناً ومنها الطوابير.
وقد بدأ إدراكى لتلك الملاحظة من عشرات السنين فى مرحلة الصبا عندما كنت أزور «ديزنى لاند» وفى وسط حماس اللعب والانطلاق دخلت دورة المياه حيث بها عدد كبير من الأبواب التى كانت مشغولة كلها وبمجرد خلوّ أحدها والذى كان قريباً منى دخلت بلا تردد لتعيدنى صيحة امرأة مسنة هى واحدة من اثنتين هما كل الموجودين فى الانتظار أمام عشرة أبواب وقد كونتا طابوراً بديهياً دون أن ألحظ وبدأت السيدة المسنة فى إعطائى درساً فى الأخلاق حيث إنهما كانتا موجودتين قبلى ولا يحق لى أخذ دورهما رغم كثرة الفرص المتاحة متمثلة فى 9 فرص أخرى لكنه الحق والعدل.. اعتذرت فى خجل وشعرت بحرج وهى تسألنى من أى البلاد أنت.. لأدرك لحظتها أن الهوة الحضارية التى أسقطونا فيها تعبر عن نفسها أو بالأحرى تفضحنا فى التفاصيل.
وتمر السنوات وتدرك الصغيرة مدى أهمية الطوابير فى الحياة حتى تكاد تكون من نواميسها.. فهى صمام أمان تحقيق العدالة الاجتماعية وإعلاء مبدأ تكافؤ الفرص.. فالطابور ليس مجرد فعل حركى لحظى تنظيمى يحتاج (عصا الأبلة) ولكنه ترتيب تلقائى ذاتى لأولويات عادلة فى كل شىء فالواسطة والمحسوبية هى قفز على طابور افتراضى وسرقة دور من هو أولى منك.. مما يقضى على الكفاءات ويبث الضغينة واليأس فى أفراد المجتمع لدرجة قد تفقده إيمانه بقيم الحق والعدل والوطن.. والاستثناء هو الشبح القبيح الذى قفز علينا من خانة الفعل الشاذ لضرورات ومبررات أخلاقية وإنسانية ليتحول إلى قاعدة وقانون موازٍ غير مكتوب وتلك هى آفة عالمنا الثالث حيث صاحب القرار هو صاحب المصلحة وهو صاحب حق الاستثناء الذى يبيحه ويعتبره مكافأته لنفسه ولبطانته مقابل ما يقترفه -أقصد ما يقدمه- من مجهودات عظيمة (ما هى الدفاتر بتاعتنا) على رأى شيخ البلد المنافق فى رائعة صلاح أبوسيف «الزوجة الثانية».
ليلفت نظرى حديث صديقتى الجميلة المهندسة أمانى عرفة فى إحدى زياراتها السندبادية لعقد صفقة لشركتها فى سنغافورة.. وكعادتها تمتعنى بتأملاتها العميقة لما قد يمر على الغافلين بلا إدراك.. حيث صادف وجودها مراسم تأبين الزعيم الروحى وقائد نهضة سنغافورة الحديثة «لى كوان يو» ذلك الرجل من أصول صينية الذى عانى كثيراً من الفقر والقهر فحولهما إلى طاقة إيجابية حولت جزيرة مليئة بالمستنقعات والبعوض وتنوع غير متجانس من بشر من أصول عرقية مختلفة إلى واحة من العالم الأول ونموذج لدولة من أقل الدول فساداً.. فتروى لى صديقتى عن أطول طابور فى التاريخ حيث تحول الشعب كله إلى طابور طويل يتعرج فى الشوارع والميادين بلا نهاية لعدة أيام فى انتظار نظرة الوداع الأخيرة المليئة بالحب والعرفان لقائده العظيم.. وقد أصبح من السهل عليها معرفة أهل البلد من الزائرين الآسيويين حاملى نفس الملامح ببساطة من علامات الحداد فى ملابسهم وأرواحهم حيث اتشحت سنغافورة بلون الحزن.. كان هذا هو أجمل طابور سمعت عنه وقد انتفت المصلحة وانعدمت الاستفادة وذابت الأسماء والهويات وبقى صدق المشاعر.. بلا لافتات نعى تكتب الناعى بحجم أكبر من المنعى كما نفعل نحن فى استغلال مهين ومبتذل لحرمة الموت فى طوابير أخرى قبيحة وهمجية تسد الشوارع وتعيق الحياة من المنافقين والمتسلقين حتى حبال الحزن.. لأكتشف أن رقى الهدف ينعكس على رقى الوسيلة. تؤلمنى عشوائية التكالب فى حياتنا وافتقاد الثقة والأمان والطوابير.. بدءاً من محطات الأوتوبيس.. تعرج السيارات فى الشوارع لتخطى الآخرين فتشل حركة الجميع فى (زنقة)أخلاقية مرورية.. المصالح الحكومية عند التقدم للحصول على حق أصيل من حقوقنا التى نهدرها بالتحايل ومحاولة تخطى غيرنا.. وعدم احترام وقته الذى هو وحدة عمره وحياته والاستعانة بفلان بيه وعلان باشا ثم نمضى ساخطين على البلد وفساد كل شىء فيها.. نهاية بدور السينما وأماكن الترفيه.. وما يحدث فيها من تحرش وذبح لآخر ما بقى من مروءتنا ونخوتنا.. فهل لنا أن نستعيد مواقعنا من طابور الحياة برضا وصبر واحترام لطبائع الأمور ونقف «صفا، وانتباه» بنظام دون انتظار (لعصاية الأبلة) كما الصغار.. فنستعيد احترامنا وإيماننا بالحق والعدل والوطن.