سوف يحسب لمجلس النواب قطعا انه اتخذ موقفا قويا ضد خصخصة المرافق العامة.. مما دفع الدكتور علي عبد العال رئيس المجلس إلي التأكيد بكل حسم انه "لا بيع لشركات ولا لبنوك ولا لمرافق علي الإطلاق.. ولا يجب أن نسير وراء الشائعات المغرضة".
ويبقي منتهي أملنا كشعب في هذه القضية أن يتمسك المجلس ورئيسه بهذا الموقف القوي دون تراجع.
لكن.. هل ما أثير حول خصخصة المرافق كان شائعات مغرضة حقا؟!
القضية تفجرت بسبب مقال نشرته سحر نصر وزيرة التعاون الدولي في صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية المتخصصة في الشئون الاقتصادية أعلنت فيه عن "عمليات بيع جزئية لشركات وبنوك حكومية وشركات المرافق العامة لأول مرة.. التي كانت عادة تستثني من عمليات البيع باعتبارها شركات استراتيجية".
أظن هذا الكلام واضح وصريح لا يحتمل التأويل ولا لبس فيه ولا غموض.. والقائلة به مسئولة مهمة في الحكومة ضمن فريق التخطيط ورسم السياسات الاقتصادية.. لا تتحدث عن أفكار أو وجهات نظر وإنما تتحدث عن التحولات الاقتصادية التي حدثت وستحدث في مصر في إطار الاصلاحات وتغيير التوجهات من فرض ضريبة القيمة المضافة إلي قانون الخدمة المدنية وتعويم الجنيه ورفع الأسعار وميكنة الدعم.. وتخاطب به المؤسسات المتخصصة في أمريكا والعالم التي تطلع علي الجريدة والمهتمة برصد التحولات ومتابعتها والتعامل معها.. فمن أين أتت الشائعات إذن؟!
التهوين والتسطيح لا يصلحان مع مثل هذه القضايا الحساسة.. كان يكفي جدا الإعلان عن تراجع الحكومة.. وتراجع الوزيرة نفسها.. والتعهد بعدم اللجوء إلي الخصخصة من جديد بدلا من إثارة البلبلة بالادعاء مرة أن المقال يعبر عن وجهة نظر الوزيرة.. والمقال في حد ذاته ليس فيه وجهة نظر وإنما عرض لما اتخذته الحكومة وما ستتخذه من إجراءات "إصلاحية".. والادعاء مرة أخري أن ما أثير مجرد شائعات ينبغي ألا نسير وراءها.. فهل الوزيرة تروج شائعات مغرضة.. أم أنها كتبت شيئا والجريدة نشرت شيئا آخر؟!
كثيرا ما تحدث رئيس الوزراء عن عدم العودة إلي الخصخصة.. وعدم اللجوء إلي بيع وحدات من القطاع العام المملوك للدولة والذي هو حق الشعب بعد أن ثبت فشل صفقات الخصخصة في عهد مبارك وانتهت إلي تخريب الشركات والمصانع وتشريد العاملين.. ثم عاد بعضها إلي الدولة بأحكام قضائية نهائية.
ورغم هذا التعهد كانت تتناثر أخبار في الصحف والفضائيات علي ألسنة رسمية عن بيع مساحات من الأراضي التابعة لبعض الشركات والمصانع الكبري وطرح أجزاء من أسهم بعض الشركات والبنوك المملوكة للدولة في البورصة واستغلال العائد من البيع والطرح في زيادة رأس المال وتطوير وتحديث أدوات الانتاج.. وهو نفس المبرر الذي كان يقال دائما عند خصخصة أية شركة أو مصنع في حكومات ما قبل الثورة.
شخصيا.. كنت اعتبر ذلك نوعا من بالونات الاختبار.. التي تستدعي أن نذكر الحكومة بسوءات الخصخصة حتي لا نلدغ من الجحر مرتين.. وكتبت في هذه الزاوية مرارا وتكرارا ضد الخصخصة من الباب الخلفي "و" الخصخصة بدون عنوان".
الخطورة هذه المرة أن الوزيرة تحدثت عن خصخصة المرافق العامة التي هي أكثر مناطق التماس بين المواطن والدولة.. والمرافق الآن ملك دافعي الضرائب ودافعي الفواتير الشهرية.. لأن جزءا من قيمة الفاتورة هو استرداد لتكلفة الإنشاء.. ومن يشتري المرافق سيصدر الفواتير من أجل استرداد ما دفعه وأيضا لتحقيق أرباحه.. وسيكون محتكرا.. وإذا كان هذا المستثمر أجنبيا فسوف يطلب تحويل أرباحه من الجنيه إلي الدولار.. ويتحول المكسب السريع إلي خسائر طويلة المدي.. خسائر للمواطن والدولة.
ادرسوا تجارب عمر أفندي وقها وشركة الكتان والمراجل البخارية ومصانع حليج الاقطان.. وكيف خسرت الدولة أضعاف أضعاف ما حصلت عليه من المستثمرين.