الأهرام
اسامة الازهرى
الحضارة فريضة إسلامية (3)
حتى يتمكن القرآن من صناعة الحضارة كان لزاما أن يأمر العقل بالانطلاق والحركة والفكر، وأن يلفت نظره إلى الآفاق الرحيبة التي يجب عليه أن ينظر فيها.

فأمر بالتفكر في خلق السموات والأرض، حتى تتولد علوم الفيزياء الكونية، وأمره بالنظر والتفكر في كيفية ابتداء الخلق، وأمره بالنظر في السماء، وما تزينت به من النجوم، ورصد مجموعاتها، والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر فتولد علوم البحار، وتولد مراصد الفلك، وأمره بالنظر في كيفية نزول المطر لتولد علوم الأرصاد وطبقات الجو.

وأمره بالنظر في أجناس الموجودات، ومعرفة طبائع عالم الحيوان وممالكه وتصنيف أنواعه، والنظر في عالم الجبال وعلومها، والنظر في طبقات الأرض وعلوم الجيولوجيا فقال سبحانه: (أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)(الغاشية: آيات 17-20).

وأمره بالنظر إلى طعامه و(فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَىَ طَعَامِهِ)، ليتأمل في الكيفية التي يتم بها تصنيع حركة الطعام في العالم، على اختلاف الأقوات والأرزاق وأمزجة الشعوب وطبائع الأمم في ذلك، فقال سبحانه عن الأرض: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ)، وحينئذ يتبين أن الأمم على أنواع بحسب خريطة الأقوات الشائعة، فهناك أمم خُبْزية تعتني بالمخبوزات وتبدع في ذلك، فتعتني بكل مقدمات أمور الخبز، من زراعة وتخزين، وتتفنن في تنويع مصنوعات الأخباز، وأمم أرزية تعيش على الأرز فتعتني بزراعته، وتجويد ما يدور في فلكه من مأكولات، وأمم لحمية تأكل اللحوم فتعتني بالمواشي ومتطلباتها، وتجود عندها مصنوعات الجلود من الحقائب والأحذية، وأمم سمكية تأكل ما يتم استخراجه من البحر من مأكولات وتتفنن في ذلك، فتعمر على ضفاف ذلك صناعات وحرف ومهن، وتروج تجارات، وتتدفق أرزاق، وتنفتح بيوت، ويمتد العمران.

ولكي يظهر القرآن الكريم عنايته الشديدة بذلك، أمر الإنسان بالنظر، والتفكر، والتعقل، والتدبر، والعلم، ونوع التعبير عن هذه المقاصد الجليلة، حتى لا يدع بابا من أبواب تحريك العقل وتوليد العلوم والإبداع فيها، إلا ويكون قد طرقه وفتحه على مصراعيه.

حتى إن القرآن الكريم -كما أحصى عدد من الباحثين- لم يستعمل العقل بصيغة الاسم الجامد، وإنما استعمل مشتقاتِهِ الفعليةَ: (تَعْقِلُونَ) 23 مرة، (يَعْقِلُونَ) 22 مرة، (عَقَلُوهُ) مرة واحدة، (يَعْقِلُهَا) مرة واحدة، (نَعْقِلُ) مرة واحدة، مما يفيد الحراك والمرونة والتفعيل والانطلاق والإعمال والتشغيل.

ووردت مادة كلمة (يتفكرون) في القرآن ثماني عشرة مرة، في سورة البقرة، والأنعام، والأعراف، ويونس، والنحل، وسبأ، والزمر، والجاثية، والحشر، والمدثر، وتارة ترد بلفظة (يتفكرون)، أو بلفظ (يتفكروا)، أو بلفظ (تتفكروا)، مما يفيد الأمر بالتفكر في مختلف الأحوال والأطوار والعلوم والمعارف.

ووردت مادة كلمة (نظر) فى القرآن مائة وثلاثين مرة، بتسع وعشرين صيغة، وهذه بعض النماذج منها: (قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)(العنكبوت: آية 20)، وقال سبحانه: (فَانظُرْ إِلَىَ آثَارِ رَحْمَةِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَىَ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الروم: آية 50)، وقال سبحانه: (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَىَ طَعَامِهِ)(عبس: آية 24)، وقال سبحانه: (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ)(الطارق: آية 5)، وقال سبحانه: (أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ)(ق: آية 6).

وكل ما سبق فهو في حقيقته منهج في صناعة العقل وطريقة تشغيله ومنهجية تفكيره، ورسم خرائط اهتماماته، وصناعة فكر مستنير، مفعم بالعمران، شغوف بالمعرفة، كاشف عن المواهب والعبقريات، يحب الحياة بكل صورها ويقدرها ويقدسها، ويرفع عنها الحرج، ويسعى لها في كل جمال وتأنق، وهو في كل ذلك كثير الذكر لله تعالى، عميق الإيمان به، يعظم شعائره، ويقيم فرائضه، ويهذب النفس بأزكى الأخلاق وأجمل الشمائل، فتولد الحضارة حتما.

وإذا كان هذا المنهج قد غاب على مدى عقود تحت ضجيج الحاكمية والتكفير والجاهلية والصدام والولاء والبراء والتبديع والتهجم وشراسة الأخلاق والغلظة والفظاظة، فقد تحتم علينا أن نزيل كل هذا الظلام الذي علق بالشرع الشريف، فجعل الناس تنهمر في التكفير، وتغيب عنهم الهدايات القرآنية الصارخة بتأمل الكون، وفهم قوانينه وعلله وسننه وأسبابه، والانسجام معه، وتوليد المعارف، وتقديس العلم.

وإذا قلنا إن الحضارة فريضة إسلامية فهذا القول حق وصدق، ولو ألقى الإنسان نفسه في نهر هذا الشرع الشريف، وترك نفسه له تماما، ورأى إلى أين تفضي به تياراته المنهمرة المتدفقة، لوجد نفسه حتما صانعا للحضارة، محبا للعمران، عاشقا للتمدن والرخاء (وللحديث بقية).

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف