عاطف بشاى
حينما تنتقم «النهود» لنفسها
غادرت «زينة» مصلحة الطب الشرعى بعد إجراء تحليل البصمة الوراثية (D.N.A) هى وتوأماها «عز الدين وزين الدين» وعدد من أصدقائها رافعة أصبعها على سلالم المصلحة لإظهار ختم إجراء التحليل أو صك البراءة والشرف المصون.. بينما امتنع «عز» عن حضور الجلسة وإجراء التحليل.. وبعد تداول القضية فى أروقة المحاكم عدة أشهر حيث انتهت إلى رفض استئناف النجم «شهريار» العصر والتأكيد على نسب التوأم له الذى اعتمد حكم النسب فيه على إثبات الزواج.. بل قضت محكمة جنح مدينة نصر بحبس الفنان ثلاث سنوات وتغريمة 20 ألف جنيه بتهمتى البلاغ الكاذب وسب وقذف الفنانة.. لكن «عز» ما زال مصراً على التنصل من مسئوليته رافضاً الاعتراف بأبوته للطفلين.
تذكرت على الفور وأنا أقرأ خبر إثبات النسب برفض استئناف الممثل وقائع متشابهة، بل متطابقة، فى جلسة إصدار حكم مماثل بطلاه «أحمد الفيشاوى» و«هند الحناوى».. آسف كان البطل الحقيقى هو ذلك القاضى الرائع.. الحكم النهائى واحد فى القضيتين ولكن الطريق إليه كان مختلفاً.. فماذا حدث؟!.. ومن هو ذلك القاضى الرائع؟
إنه قاضٍ فنان يحب الشعر والدراما بقواعدها «الأرسطية» فى شقها التراجيدى المتصل بالعاطفة والوجدان.. ويستخدمهما -الشعر والدراما- فى عمله بذكاء وحنكة.. وفى الوقت المناسب تماماً.
بالنسبة للشعر، فهو يرى كما يرى «نزار قبانى» أن الشعر ضرورة إنسانية ووجودية، فلا فرار منه، ولا انفلات من قبضته.. تلك القبضة التى قد تكون حريرية ناعمة مشتاقة لعيون صافية تمطر فيروزاً، أو بحاراً رقراقة تغزل زرقة وولها وإلهاماً.. وكلمة سر تأتى بياسمين الربيع، ونبض الحياة، وبهجة الحب.. وإما أن تكون حادة جارحة، تهتك الأستار، وتسقط الأقنعة الزائفة، وتعرى المسكوت عنه.
يصبح الشعر هنا رياحاً تثور، وشمساً تدور.. وتصبح أبياته تمثل صرخة امرأة ملتاعة متمردة تنتمى إلى نساء نزار الباحثات عن كرامة منقوصة وشرف مستباح ومعنى جوهرى لوجودهن الإنسانى الذى يئده مفهوم شائه للجنس، الذى لا يرى فيه الرجل الشرقى المرأة إلا مجرد أداة لإشباع غريزته، ولا تتجاوز فيه العلاقة الجسدية الشكل المهين لراغب.. ووعاء للرغبة: «ماذا يهمك من أنا/ ما دمت أحرث كالحصان/ على السرير الواسع/ ما دمت أزرع تحت جلدك/ ألف طفل رائع/ ما دمت أسكب فى خليجك/ رغوتى وزوابعى/ ما شأن أفكارى/ دعيها جانباً/ إنى أفكر عادة بأصابعى/...».
يخرج القاضى من جيبه قصاصة، يقرأ منها عدة أبيات من قصيدة لـ«نزار» هى «طفولة نهد».. فى مواجهة الممثل الشاب.. وكأنه يعلن أنه فى تضامنه مع «الأنثى الأم» إنما يشعل مع «نزار» ثورة الشعر، وثورة النساء، ويبارك روح الاستنفار.. وروح المقاومة التى يستشعرها تعلن عن صوتها الذى يجهر بما كان يخجل، ويدعو إلى الانزواء، والتوارى والحياء، والخفر، حيث الخطيئة مؤنثة، والفضيحة امرأة و«الوبا اللى خد هنادى ممكن ياخد الثانية».. إنه أمر مدهش حيث يعلن «نزار» على لسان الرجل:
«عرفتك صوتاً ليس ليسمع صوته/ وثغراً خجولاً كان يخشى القُبل/ فأين مضت تلك العذوبة كلها/ وكيف مضى الماضى.. وكيف تبدل؟».
لكنها تفاجئه بشراسة وتحاصره بضراوة وبوجه سافر لا يضع أصباغاً ولا يخلو من جسارة غريبة وغير معتادة.. فتجرس فعلتها وفعلته فى كل مكان.. فى الصحف والمجلات.. وعلى شاشات الأرضيات والفضائيات.. ومعها كل مؤسسات المرأة الرافضة والفاعلة والمناهضة من حفيدات «هدى شعراوى».
حشدت، إذاً، «هند» الحشود، وجيشت الجيوش، ونازلته أمام المحاكم، أدانت قرصنة شهريار الآثمة الذى انقض على فريسته الساذجة المهيضة، وفر هارباً.. وشاهدته متشفية وقد ارتعدت فرائصه، وتخبط مرتبكاً من صدمة المفاجأة ولسان حاله يعلن:
«واليوم أجلس فوق سطح سفينتى كاللص أبحث عن طريق نجاة/ اليوم تنتقم النهود لنفسها/ وترد لى الطعنات بالطعنات/ مأساة «هارون الرشيد» مريرة/ لو تدركين مرارة المأساة/ الجنس كان مسكّناً جربته/ لم يُنهِ أحزانى ولا أزماتى».
أما وقد استلهم القاضى روح الدراما، فما أبرع ما استخدم من أدواتها، حيث بدأ «بالمقدمة المنطقية».. وهى مجموعة الأسئلة والأجوبة عنها، وأكثرها غير تقليدى وغير معتاد، ذلك ليتناسب مع طبيعة «الاستهلال الفنى الدرامى» الذى يكشف عن أبعاد الشخصيات وتركيبتها النفسية والاجتماعية، وأفكارها، والجو العام المحيط بها تمهيداً لإنشاء الصراع.. مثل: «كفنان حسك مرهف.. لو بتعمل فيلم عن القضية دى.. إزاى حاتمثله؟!».. و«لو المحكمة طلبت إجراء تحليل الـ (DNA) هل ستقوم به؟!».
ثم انطلق إلى إشعال «الصراع الدرامى»، فطلب مشاهدة الطفلة.. ولاحظ كما يقول أن بينها وبين جدها «الفيشاوى» شبه كبير، ولأن الحكم لا يعتمد على «القيافة» فقط، فقد طلب فى لحظة «الذروة الدرامية»، وحسماً للصراع، من «أحمد» أن يحملها.. وكان يهدف كما قال: «لعل مشاعره نحوها تتحرك».. إنه يحملها بين ذراعيه.. وجهها الآن فى مواجهة وجهه.. عيناها فى عينيه.. لقطات متبادلة للنظرات بينهما.. مفعمة بكل المشاعر الإنسانية المتداخلة والمتضاربة.. مشحونة بالتوتر والإثارة والأنفاس المحبوسة.. بالصمت والرهبة.. والارتجاف.. والزمن هنا زمن «درامى» وليس زمناً واقعياً.. فهو يمتد وتمتد معه «اللحظة الشعورية» ربما لتصبح دهراً بأكمله.. هل تترقرق الدموع فى المآقى؟!.. هل تفصح العيون عن خبيئة النفس ومكنون الصدر؟!.. هل تنطق الشفاه المرتجفة بكلمة حاسمة فاصلة تكشف عن جوهر الصراع.. وتنتصر للحقيقة؟!
لا.. لقد تمخض «المشهد الدرامى»، كما أورد القاضى أنه «لم يحرك ساكناً»، فكان رد الفعل -كما أتصور- حافزاً لفك الصراع -من قبل القاضى- وصولاً إلى «حتمية درامية واجتماعية» توجب القرار الحاسم الذى ينتصر للطفلة ولا ينتصر لطرفى الصراع.. فأياً كان الأمر.. زواج فاسد.. زواج صحيح.. زواج عرفى.. زواج «تيك أواى».. علاقة شرعية.. علاقة غير شرعية.. فإن ثبوت النسب إلى «أحمد» هو: «حمل المرأة على الصلاح صيانة لشرفها وشرف عشيرتها والتستر على الأعراض وإحياء الولد مراعاة لمصلحته».
ومضى الشاب صامتاً فى المشهد الختامى للدراما.. ومضت السيدة المناضلة تحيط بها السيدات المناضلات.. عضوات المنظمات النسائية والمؤسسات التى لا حصر لعددها والمعنية بقضايا المرأة المصرية المعاصرة التى تتبنى حقوق القوارير المحصنات.
ولحقتها «زينة» وأنصارها فى نضالهم المجيد ضد المجتمع الذكورى الذى يعانى من الازدواجية المريضة، والأخلاق الزائفة والقناعات القديمة، والقيم المرتبكة، والأفكار البالية والعادات المستقرة الجامدة التى تبارك (اللعب الذكورى) فى الظلام وترتعد من شجاعة الاعتراف بنتاج الحرية الشخصية.. فالنور يطرد الخفافيش.