أتمني أن تصل الصرخة التي أطلقتها محكمة القضاء الإداري بأسوان برئاسة المستشار الجليل عبدالفتاح حجازي. إلي أسماع المسئولين في هذا البلد.. لعلها توقظ ضمائرهم من أجل حماية النيل من التلوث ـ فعلاً لا قولاًـ رأفة بأكباد المصريين المنهكة وصحتهم المتدهورة.
كانت المحكمة قد أيدت في حكمها قرار مدير عام حماية النيل بمركز إسنا بإزالة ماسورة الصرف الصناعي "المعالج" المنتهية في مياه النيل والخاصة بإحدي الشركات.. لكنها لم تكتف بالحكم. وإنما انتهزت الفرصة لتدعو كل مؤسسات الدولة لتحذو حذو إدارة حماية النيل بإسنا في تحمل مسئولياتها نحو النيل. شريان الحياة في مصر. الذي نغني له ثم نخربه وندمره ونلوثه.. وندمر معه صحة الشعب المصري.. وطالبت مجلس النواب بتعديل المنظومة التشريعية المنظمة للتعامل مع النيل لتحظرـ صراحةـ الصرف في مياه النيل. ولو كان معالجاً.. واعتبار ذلك جريمة وجناية خطيرة. مضمونها الشروع في قتل المصريين.
ورفضت المحكمة الدعوي التي رفعتها الشركة لإلغاء قرار إزالة ماسورة الصرف الصناعي الخاصة بها.. مؤكدة أن المادة 44 من الدستور تلزم الدولة بحماية نهر النيل والحفاظ علي حقوق مصر التاريخية المتعلقة به وترشيد الاستفادة منه وتعظيمها. ومنع إهدار المياه وتلويثها.
وقالت المحكمة إنه "يجب علي الجهات الإدارية أن تتوخي أقصي معايير الأمان والسلامة المقررة لمياه النهر.. وأن يضع المسئول التنفيذي الذي يملك سلطة إصدار تراخيص الصرف نفسه مكان المواطن العادي الذي يتمني أن يغترف من مياه النيل بيديه ويشرب ليرتوي من النهر. الذي مَـنَّ الله به علي مصر. شرياناً للعطاء. ومفيضاً للخير".
وأوضحت المحكمة أن التشريعات المصرية تضمنت العديد من التناقضات التي اعتبرتها "عواراً قانونياً. يتناقض مع الالتزامات الدستورية.. لأنها تسمح للدولة بأن ترخص للصرف الصناعي في النهر".. متسائلة: "أي ضرورة تلك التي تسمح بإطلاق الصرف الصحي إلي جانب الصرف الصناعي ـ ولو كان معالجاًـ في مياه نهر النيل في طول البلاد. تحت سمع وبصر جميع الأجهزة المسئولة عن حماية نهر النيل من التلوث"؟!!
وأضافت في حيثياتها: "إن هيئة المحكمة تتحدي كائناً مَن كان أن يشرب كوباً من ماء الصرف الصحي والصناعي المعالج المسموح بصرفه في النيل قانوناً.. وإلا فلماذا تفشَّت أمراض السرطان والكُلي التي تنهش أكباد المصريين وأجسادهم"؟!!
وشددت المحكمة علي أنه "إذا قامت الأجهزة الحكومية المعنية بدورها في حماية مياه النيل. ومنع تلوثه لما أنفقت الدولة مبالغ طائلة علي علاج أكباد المصريين".
الحقيقة أننا نتآمر علي أنفسنا ونخدع أنفسنا.. لأننا نعبث بالنيل ونفسده.. ونحوله من شريان للحياة إلي مصدر للسموم والموت.. يحمل الأمراض الخبيثة لنا ولأبنائنا. ولثروتنا الحيوانية وزراعاتنا.. نحن نسمح بآلاف من مواسير الصرف الصحي والزراعي والصناعي أن تصب في النيل. وفي نفس الوقت نقيم محطات لتنقية المياه بمليارات الجنيهات من النيل.. وتدفع الدولة مليارات الجنيهات لعلاج الفشل الكبدي والكلوي. الذي يسببه تلوث النيل في مياه الشرب وفي الزراعات الملوثة.
النيل بسببنا.. وبما نفعله نحن.. لم يعد واهب الحياة.. وإنما صار يهدد الحياة.. وكلما قرأت عن الجرائم التي نرتكبها في حق النيل رغم الحملات والمبادرات الموسمية أتساءل: ماذا يمكن أن يفعل بنا الأعداء أكثر مما نفعل نحن بأنفسنا؟!!
باختصار.. نحن نقتل أنفسنا عمداً مع سبق الإصرار والترصد.. ولهذا جاءت صرخة القضاء مدوية. فهل من مجيب؟!!