الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
تطَرّفْ .. تبتسم لك الحياة!
بينما يستعد العالم لتعميد عصر جديد، باستقرار «ترامب» رسمياً في قدس أقداس القيادة العالمية (البيت الأبيض)، يصبح الوعي الإنساني بين خيارين كلاهما عنوانه التطرف، فالمسار محدد سلفاً للجميع -نخباً وشعوبا، إما سير إلى أقصى اليمين أو توجه إلى أقصى اليسار، وعلى من يرى في رحابة الإنسانية وسطية، أن يلجأ إلى الاعتزال أو الانكسار أو الصمت الرهيب الكئيب.

ولا يمكن اعتبار عصر «ترامب» نتيجة غير طبيعية أو مفاجئة، فماكينة الإدارة العالمية عبر عقود فرضت على رحم الواقع نُطفة «ترامب» وراحت تنتظر اللحظة المناسبة لطلق الميلاد تبشيراً بوصول النموذج الخالص الذي يطوى صفحة المنطق، وصولاً إلى صفحة جديدة من عمر الإنسانية، يبزغ فيها نجم «التطرف» قائداً مستوٍيا على عرشه، ويُعْتَمد فيها «الهدم» لغة عالمية للحوار.

تماماً كما لا يصح تصوير «ترامب» باعتباره فتحاً مبيناً في معارك مواجهة التطرف، فأنَّى لنظام عالمي «رعى» التطرف أن يواجهه؟، وكيف لتنظيمات عالمية ـ على رأسها الإخوان- نمت مقتاتة على موائد التطرف أن ترفض وجود قيادة عالمية تثري موائده بصنوف شتى من أطباقه فضلاً عن المقبلات وفواتح الشهية؟!.

أعود بالذاكرة إلى نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، لأكتشف أنه لم يكن محض صدفة أن يلجأ التنظيم الإخواني إلى عقد فعاليات مجتمعية في الأوساط بتباين طبقاتها خاصة الشعبية والريفية، حيث يجتمع الناس حول جهاز تليفزيون وفيديو وشريط مصور يحمل عنوان (المناظرة العالمية بين الشيخ أحمد ديدات والقس جيمي سواجارت)، يجلس البسطاء وغيرهم من المتدينين فطرة، متحلقين حول حوار بين ممثلين للدين الإسلامي والمسيحي، كلاهما يسعى بكل جهد إلى نفي الآخر عبر الاستدلال على فساد عقيدته وانحراف كتابه المقدس، ليخرج الجمع وقد تسلل إلى وعيه نفي للآخر الإنساني الذي يجاوره في السكن أو الدراسة أو العمل، كان العرض الذي شمل مصر حضراً وريفاً مجرد تمهيد أو بروفة لقادم.

وتمضي سنوات قليلة، وتحديدا في معرض الكتاب عام 1992م، حيث يقرر التنظيم الإخواني أن يطلق النفير لقواعده لتتحرك صوب المعرض لنصرة الإسلام بحضور مناظرة بين ممثلي الإسلام (الشيخ محمد الغزالي والدكتور محمد عمارة وعضو مكتب الإرشاد مأمون الهضيبي) والعلمانيين الكفرة - حسب النفير التنظيمي- (فرج فودة ومحمد أحمد خلف الله)، وبغض النظر عن فهم القواعد المشحونة لما كان يدور من حوارات، فلقد كان الأهم هو تنمية ما ترسخ بالمناظرة الأولى لديدات، ألا وهو نفي الآخر الإنساني، أي آخر وكل آخر، كان ذلك بالمناسبة هو هدف الجمهور من الطرفين.

وكما تم تسويق مناظرة ديدات جماهيرياً، حدث ذات الأمر مع مناظرة معرض الكتاب، وينبغي الإشارة هنا إلى أن هذه المناظرة تمت بمباركة من الدولة وأجهزتها الأمنية التي بالتأكيد لم تكن غافلة عن الحشد الإخواني أو عن حضور عضو مكتب الإرشاد للمناظرة.

عالمياً كانت الأضواء تبحث عن هكذا معارك لترسخ الاتجاه نحو التطرف، ليصل العالم إلى محطة (آيات شيطانية) للكاتب الانجليزي الجنسية الهندي الأصل، وعلى ضعف النص كان مطلوباً أن تترسخ عالمياً ثقافة (النفي)، وعلى قدر المستهدف كانت الحفاوة تبنٍيا من المتطرفين تحت راية العقل، واستنكاراً وتكفيراً من المستبدين رافعي راية الدين، ليتزامن مع ذلك محاولة اغتيال الكاتب العالمي (نجيب محفوظ) بعد استدعاء روايته (أولاد حارتنا) من تاريخ كتاباته لتكون المصوغ. ثم كان أن شهد عام 1995م، الحكم غير المسبوق بالتفريق بين الدكتور نصر حامد أبو زيد وزوجته الدكتورة ابتهال يونس.

تتوالى الأحداث تصاعداً وتصعيداً، وتبلغ ذروتها في مظاهرات (وليمة لأعشاب البحر) والتي كتبها السوري حيدر حيدر عام 1983م، وقررت وزارة الثقافة في عهد مبارك إعادة طبعها عام 2000م، لتنطلق المظاهرات من جامعة الأزهر لقرابة أسبوع، حيث نفس الجمهور الذي كان يهتف في معرض الكتاب تأييداً دون أن يقرأ، في مواجهة ذات الخصم الذي كان يروج لخطابه دون أن يستوعب أنه يسوق للنفي.

هكذا كانت الإرهاصات الأولية لميلاد عصر (ترامب)، اختلط فيها الدور المحلي مع الدولي، والفعل التنظيمي مع التنويري، والعاطفة الدينية مع العلمانية، وأحلام السيطرة والشهرة مع تطلعات التربح والثروة، ليصبح القالب المعتمد عالمياً للشهرة هو (التطرف)، وعلى الجمهور أن يحتشد خلف النجم الذي يراه له ممثلاً ليضمن كونه من أصحاب المواقف، وعلى كل ساع للتصدر أن يوقن أن (التطرف) هو الصاروخ الذي ينطلق به إلى سموات النجومية حيث تبتسم له الحياة بينما تتساقط من ثغرها قطرات دماء الجماهير التي تساق إلى حتفها. و(للحديث بقية)..
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف