المصريون
ياسر انور
تهافت الخطاب العلماني العربي
إن النقد الذي يوجه للإسلاميين ولخطابهم التقليدي الذي يتسم بالجمود و التكلس في مواجهة دينامية الواقع ... هذا النقد لا يعني تحميل الإسلاميين وحدهم مسئولية التراجع الحضاري و التشوه المعرفي الذي يسم العقل العربي المعاصر .. فهناك في المقابل خطاب علماني متهافت يعاني من المشكلة ذاتها، وهي مشكلة الجمود و الإصرار على استيراد نماذج علمانية غربية نشأت في سياقات تاريخية و ثقافية مغايرة .. ، ويريدون تقديمها للأمة باعتبارها هي النموذج الوحيد للنهضة ، فإذا كان المشروع الحضاري الغربي يستند في منطلقاته إلى اعتبار أن هو العائق الأكبر أمام العقل و الحرية والتقدم .. فلابد في المقابل من إبعاد الدين عن الواقع العربي بنفس الطريقة الغربية ، وإذا كانت المرأة الأوروبية تمارس حريتها دون قيود .. فلابد أيضا من أن تحذو المرأة العربية حذوها ، وتقلدها ، فكرا وسلوكا ومظهرا ، وهنا تكمن أزمة الخطاب العلماني العربي من خلال الملحوظات التالية : - أن التنوير الغربي كان امتدادا للتنوير الإسلامي ، ولولا تراجم القرآن الكريم و الكتب العلمية العربية في المجالات المختلفة من طب وفلك ورياضيات وفلسفة وغير ذلك ، لما كان هناك تحرر ولا تنوير غربي .. و لما ظهر "مارتن لوثر" وتمرده على الكهنوت الديني .. و لما كان هناك "جون لوك" وغيره من رواد التنوير .. وقد أشرنا في مقال سابق إلى دراسات الباحثة البريطانية "جي. إيه . رسل" إلى تأثر "جون لوك" برواية "حي بن يقظان" "لابن طفيل ".. و قد كتبت عشرات الكتب بأقلام غربية تشيد بدور الإسلام في تشكيل العالم الحديث. - أن الأزمة في العالم العربي لم تكن بسبب الدين ، ولكن بسبب (رجال الدين) الذين لم يواصلوا مسيرة المشروع الحضاري العربي .. وقصروا دراساتهم على كتب الفقه واللغة و الأدب ، و هي قضية قديمة جديدة ، حذر منها الإمام" الشافعي" منذ أكثر من ألف عام بعد أن رأى انصراف الأمة عن تعلم الطب لصالح العلوم الشرعية ، وهو نفس التحذير الذي أطلقه "رفاعة الطهطاوي" في مقدمة كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". - أن عوامل تحقيق النهضة ليس من شروطها أن تتعرى المرأة أو تتخلى عن حجابها .. وقد قدم محمد علي دليلا عمليا على ذلك، فبدأ مشروعه النهضوي بعيدا عن أي تحرش بثوابت الدين ، و بعيدا عن الشكليات الفارغة التي هيمنت على خطاب العلمانيين العرب ، و لذلك نجح محمد علي خلال سنوات في بناء دولة حديثة شكلت خطرا كبيرا على الخلافة العثمانية و على أوروبا نفسها . لقد هيمنت قضية المرأة على الخطاب العلماني بطريقة مريبة ومثيرة للدهشة ، وجعلوها (القضية المركزية) في خطابهم (التجديدي) على الرغم من أن القضية الكبرى كانت تحرير (العقل العربي) وليس تحرير (الجسد العربي) الذي تحرر وتعرى لمائة عام حتى الآن .. ومع ذلك ، فلم يتم إنجاز أي ملمح من ملامح المشروع الحضاري العربي! يقول قاسم أمين في كتابه المرأة الجديدة : " الكل متفقون على أن حجاب المرأة هو سبب انحطاط الشرق" ! دون أن يخبرنا من هؤلاء الكل ، و كيف اتفقوا ؟ ويقول في موضع آخر: " إن الحجاب على ما ألفناه مانع عظيم يحول بين المرأة وارتقائها، وبذلك يحول بين الأمة وتقدمها "! و هكذا اختزل قاسم أمين قضية تقدم الأمة في تخلي المرأة عن حجابها ، وهذا ليس عبثا و استخفافا بالعقول فقط ، ولكنه نوع من الكذب و الخداع .. فالتقدم لا علاقة له بالمظهر ولا بالزي ولا علاقة له بالدين أصلا . و هكذا تاهت الأمة بين جمود المشايخ و تدليس تيار التجديد ، واستنفدت طاقاتها و جهدها في الجدل الأبله حول اللاشيء!

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف