ما إن تقع أزمة هنا أو هناك حتي يبادر المسئول أي مسئول إلي نفض يده منها. موزعًا اتهاماته وانتقاداته اللاذعة ذات اليمين وذات الشمال لمن هم أدني منه في السلم الوظيفي بهذا القطاع أو ذلك الجهاز من الأجهزة الحكومية هربًا من تحمل مسئوليته الحقيقية عن أخطاء مرءوسيه ومساعديه.. ففاجعة القطارات غالبًا ما يتحملها عامل التحويلة أو السائق المتهور الغافل. وشيئًا فشيئًا تهدأ حدة العاصفة وتعود ريما لعادتها القديمة وتذهب وعود الإصلاح والحساب سدي.. هكذا عودتنا البيروقراطية المصرية العميقة والعقيمة أيضًا.. الهروب من تحمل المسئولية وغياب الشجاعة الأدبية أو السياسية لدي هذا المسئول أو ذاك.. الكل يتنصل من مقتضيات المسئولية المعلومة من المنصب أي منصب بالضرورة. والضحية في النهاية هو ذلك المواطن الغلبان الذي لا حوله له ولا قوة.
ولا أدري لماذا ينسي مثلاً الوزير أي وزير أنه المسئول الأول عن اختيار مساعديه. فضلاً عن تكليفهم بمهام واختصاصات محددة ثم متابعة وتقييم أدائهم عن كثب وبصورة دورية حتي يعلم الصالح من الطالح. وقبل هذا كله يرسم لهم سياسات وزارته والأهداف المرجو تحقيقها خلال مدة محددة.. فوزير الصحة - علي سبيل المثال يختار رؤساء القطاعات والهيئات ومديري المستشفيات التابعة للوزارة.. وينسحب الأمر ذاته علي وزير التموين والتعليم وسائر الوزراء وفقًا لما رسمه الدستور والقانون من صلاحيات وسلطات ومسئوليات تجعل ¢ الوزير ¢ هو المسئول الأول عما ينفع في نطاق وزارته من قصور أو إهمال أو فساد أو تجاوز بصورة مباشرة أو ضمنية.. وفي المقابل منحه حق الولاية المباشر والمراقبة والتقييم والإقالة لمرءوسيه في أي موقع وعلي أي درجة متي اقتضي الأمر ذلك.. لكن لا نجد شيئًا من هذا علي أرض الواقع.. هل يتحلي المسئولون بشجاعة الاعتراف بالخطأ ومن ثم المبادرة بالعلاج والمساءلة والحساب. أم أن الإنكار والهروب من تحمل المسئولية هو أسهل الطرق لإبراء الذمة وإلقاء التبعة علي كاهل الغير.. تلك للأسف ثقافة سياسية مصرية بامتياز لم تنج منها حكومة من الحكومات المتعاقبة.. ولعل ما نراه في الآونة الأخيرة من إهمال وتسيب وقصور شديد في أداء بعض الوزارات ذات الصلة المباشرة بالحياة اليومية للمواطن الذي يتحمل معاناة كبيرة جراء هذا التردي دليل واضح علي ذلك.. والأمثلة عديدة.. خذ مثلاً أزمة السكر أو الفساد في توريد القمح أو الإعفاء الجمركي غير المبرر للدواجن المجمدة الذي تراجعت عنه الحكومة أخيرًا في شجاعة سياسية أيضًا لا ينبغي إغفالها. أو ما حدث في أزمة السيول. أو عدم الدراسة المتأنية للتداعيات السلبية لقرار تعويم الجنيه سواء علي المواطن أو علي الدولة ذاتها. والتي ظهرت بصماتها واضحة في تفجر أزمات أخري كالنقص الشديد في بعض الأدوية والمحاليل والمستلزمات الطبية. ناهيك عن الارتفاع الجنوني في أسعار السلع والخدمات في غيبة الحكومة والرقابة.
وبدلاً من أن تبادر الحكومة إلي استدراك أخطائها واحتواء تداعيات قراراتها الخاطئة نجد دماء المسئولية تتفرق بين الوزراء. إذ يلقي بعضهم باللائمة علي بعض دون أن نعرف بدقة من المسئول الحقيقي عن هذه الأزمة أو تلك.. وكيف ستتم مساءلته لمنع تكرار مثل هذه الأخطاء مستقبلاً.. ما يحدث فعليًا عقب كل أزمة أن تقع جاذبات وسجالات متبادلة بين المسئولين بعضهم بعضًا» الأمر الذي يجسد بوضوح ظاهرة عجيبة وهي ¢ الإفلات¢ من المسئولية ومن ثم العقاب. وهز ثقة الناس في الحكومة كلها. وتعريضها للنقد. وفقدانها المصداقية والاعتبار !!
ما أكثر التحقيقات التي جرت مع وزراء سابقين أو حاليين. تنصل جميعهم من مسئوليته عما يتم التحقيق معه بشأنه. غافلين عن مسئوليتهم السياسية التي تجعلهم شركاء في الجرم أيا ما كان حجمه.. رأينا ذلك في وزارات عديدة كالتموين والصحة والآثار والثقافة والزراعة والإسكان وغيرها.. الأمر الذي يطرح سؤالاً لا مفر من الإجابة عنه : ما حدود مسئولية الوزير عن أعمال مرءوسيه.. متي يجازي عن أخطائهم.. ومتي يُكتفي بعقابهم هم دون الإشارة إليه من قريب أو من بعيد.. وهل يدرك وزراؤنا فعلاً حدود المسئولية السياسية ومقتضياتها.. وكم وزيرًا يدركها.. ومتي يكون إدراكها من بين شروط اختيار هذا الوزير أو ذاك.. وهل يمارس الوزراء فعلاً صلاحياتهم في المراقبة والتقييم والحساب أم يتركون الأمر لمساعديهم الذين يصل الأمر ببعضهم إلي استخدام الوزير ذاته في تصفية الحسابات مع الخصوم وإقصاء من يشاءون واستبعاد من يكرهون في غيبة معايير الانضباط والكفاءة والتقييم الموضوعي.. حتي إذا ما وقعت كارثة سارع الوزير إلي التبرؤ منها ومن مساعديه الذين اختارهم بنفسه واطمأن إلي ضمائرهم وعقولهم ورضي عن أدائهم وباركه.
ولا أجافي الحقيقة إذا قلت إن الوزير أي وزير يملك وحده سلطة الاختيار والتقييم والمحاسبة والإقالة لمرءوسيه.. لكن تحمل المسئولية فريضة غائبة عن مسئولينا أغلبهم أو بعضهم رأينا ذلك بوضوح في قضية فساد توريد القمح. وقبلها قضية الفساد الكبير في وزارة الزراعة.. ولم يكن بعيدًا عن ذلك ما رأيناه علي عهد مبارك من سرقة لوحة زهرة الخشخاش وكيف قذف وزير الثقافة وقتها بالتهمة في وجه مسئول المتاحف بالوزارة الذي عاد هو الآخر باللائمة علي الوزير في التحقيقات.. فهل كان لشيء من ذلك أن يحدث لو كان الوزير حاسمًا من البداية.. أو كانت مهام كبار مرءوسيه محددة بدقة ووضوح..؟!
الأمر نفسه ينطبق علي قضية ¢ العلاج علي نفقة الدولة ¢ التي تربح منها البعض ملايين الجنيهات.. وكيف ألقي وزير الصحة بالاتهامات في وجه مساعديه نافضًا يديه من أخطائهم جملة وتفصيلاً دون أن يسأل نفسه : من اختارهم لشغل تلك المواقع.. ولماذا تركهم يتمادون في أخطائهم دون مراجعة أو محاسبة رغم امتلاكه هذا الحق بلا منازع.. لماذا تركهم يهددون موارد الدولة ويتلاعبون في أخطر ملفاتها وهو صحة المصريين خصوصًا الفقراء..وللأسف تكرر الأمر ذاته بصور شتي في وزارات عديدة لتتأكد لنا حقيقة لا مفر منها للأسف. وهي غياب الثقافة السياسية الرشيدة أو غياب شجاعة الاعتراف بالمسئولية السياسية في مجتمعاتنا.. فمسئولية الوزير ضمنية عن أخطاء مرءوسيه في كل الدول الديمقراطية أو حتي غير الديمقراطية» ومن ثم فالطبيعي هناك أن يبادر المخطئ إلي الاعتراف أولاً بالخطأ. ثم الاعتذار عنه أو الاستقالة وانتظار المساءلة التي لا يطول انتظارها في إطار الرقابة الشعبية والبرلمانية اللصيقة» الأمر الذي يعكس فهمًا عميقًا لحدود المنصب الوزاري ومقتضياته السياسية.. وكم رأينا رؤساء وزارات ووزراء يقدمون استقالاتهم طوعًا لمجرد وقوع حادثة هنا أو مشكلة هناك ينتج عنها إيذاء للمواطنين بدرجة أو بأخري فمالنا بالفاجعة والكارثة..؟!
تبادل الاتهامات بين كبار المسئولين وصغارهم أو بين الوزير ومساعديه في أكثر من وزارة.. وأيًا ما تكن صحة موقف هذا الفريق أو ذاك ظاهرة سلبية تخصم من الرصيد الكلي للحكومة أي حكومة وتهدد مصداقيتها وتخلق تشويشًا لدي الرأي العام.. وهنا يبدو السؤال منطقيًا : أين لجان المراقبة والمتابعة في كل وزارة أو قطاع أو جهاز حكومي مما يجري داخله من فساد وتردي في الأداء.. ولماذا لا تتدخل لمنع ذلك من المنبع حتي لا تهدر الموارد العامة.. وأين دراسات تلك الأجهزة فيما يخص تداعيات قرارات الحكومة علي الناس حاليًا ومستقبلاً.. أين بدائلها وتوقعاتها لإدارة الأزمات ولماذا لا تلتفت لضرورات الإصلاح إلا بعد استحكام الأزمات.. هل نسينا ما أصاب السكة الحديد ذلك المرفق الحيوي التاريخي من كوارث وحوادث مرعبة.. وكيف خرج في إثرها مسئولون سابقون ليفيضوا في الحديث عن سلبياتها دون أن يقول لنا واحد من هؤلاء لماذا سكت كل هذا الوقت..ولماذا لم يفعل ما يقول وقت أن كان في موقع المسئولية. قادرًا علي التغيير والإصلاح.. وهي ظاهرة للأسف تكررت في وزارات شتي» فثمة وزراء ومسئولون سابقون علا صوتهم بالانتقادات وتهويل السلبيات بعد تركهم لمناصبهم. وقد كانوا يكرهون مجرد الحديث عن أي تغيير أثناء توليهم المسئولية.. فإلي أي مدي يسأل هؤلاء وأمثالهم عما جري لنا من مصائب وكوارث في حياتنا..؟!
صمت المسئولين أثناء توليهم المناصب وإفراطهم في الحديث عن العيوب والمثالب بعد تركها يضعنا في مواجهة ظاهرة حكومية بامتياز تتكرر فيها المشاهد والوقائع بنفس السيناريوهات ولكن بشخوص مختلفة.. تتشابه محاولات التنصل من المسئولية بإلقائها علي الغير الذي هو أيضًا مسئول بدرجة ما عن تلك الكارثة.. شجاعة الاعتراف بالسلبيات كانت استثناءات قليلة لمسناها بصدق في أداء المستشار عدلي حسين المحافظ الأسبق. فهو من أكثر المسئولين اعترافًا بأخطاء المحليات وتصديًا لفسادها بما يملكه من خبرات قانونية مكنته من التعامل بحرفية عالية مع الفاسدين والمنحرفين. وقد كان الرجل يعزو كثيرًا من سلبياتها إلي كونها إدارات محلية وليست حكمًا محليًا يتمتع فيه المحافظ بصلاحيات كاملة تتيح له اتخاذ القرارات دون الرجوع للعاصمة المركزية التي تغل يديه في كثير من شئون محافظته. وتحد بالدرجة ذاتها من قدرته علي التعامل الفوري مع مشكلاتها الطارئة أو المستعصية. الأمر الذي يجعل الحاجة شديدة إلي استصدار قانون جديد للإدارة المحلية يمكنه حل مشكلات كثيرة متراكمة وتخفيف وطأة المركزية المعوقة للإنجاز أحيانًا وللمرونة الإدارية في أحايين كثيرة.. والتي تمثل حجر عثرة في طريق تنمية المحافظات وعقبة تعيق المحافظين عن التعامل الصحيح الناجز مع مشكلاتها.. فهل يبادر البرلمان بإصداره وافيًا شافيًا..؟!
الصفحة السابقة