محمد ابو الفضل
الترمومتر المصرى فى سوريا
كل الدول المنخرطة أو المهمومة بالأزمة السورية، تبدو مواقفها واضحة أحيانا، وملتبسة فى غالبية الأحيان،
بسبب طبيعتها وتعقيداتها، الداخلية والإقليمية والدولية، وهو ما جعل أدوات التعامل معها غامضة فى بعض الأوقات، إلى الحد الذى يوحى بالارتباك والتناقض، فالطريق الذى سارت فيه الأزمة، ولا تزال، مليء بالمنحنيات والمطبات والعقبات، التى جعلت من الصعوبة توقع الخطوة المقبلة.
لذلك تغيرت مواقف بعض الدول، بنسب متفاوتة، ومن تشبثوا برؤيتهم الضيقة، لتصفية حسابات شخصية، أو التشدد كنوع من العنتريات القبلية والسياسية، أصبح تراجعهم الآن أقسى صعوبة، بعد أن دخلت الأزمة طورا جديدا، فرض على الجميع المراجعة، وربما القبول بصفقات ومواءمات، لم تكن مطروحة من قبل.
الطريقة التى تعاملت بها مصر مع الأزمة السورية، لفتت نظر كثيرين، بعضهم اعتبرها تميل ناحية دعم النظام السوري، وآخرون قالوا إنها أقرب للمعارضة المعتدلة، وذهب فريق ثالث إلى أنها على مسافة واحدة من الطرفين، لأن قنوات الاتصال تكاد تكون مفتوحة مع غالبية القوى السياسية المؤثرة فى الحكومة والمعارضة، ما فتح الباب لتساؤلات كثيرة عن فحوى الترمومتر الذى تقيس به مصر تصوراتها ومواقفها فى هذه الأزمة، خاصة بعد أن صوتت فى مجلس الأمن لقرارين (روسى وفرنسي) فى 4 أكتوبر الماضي، انطلاقا من رغبتها فى الحل سريعا.
خلال الأيام الماضية، تقدمت مصر وإسبانيا ونيوزلندا، بمشروع قرار لمجلس الأمن، يرمى إلى وقف النار فى حلب لمدة عشرة أيام، لتسهيل دخول المساعدات إلى المواطنين المتضررين من استمرار الحرب هناك، وحظى الموقف المصرى تحديدا، بانتقاد لافت من جانب روسيا، حيث اعتبره لافروف وزير الخارجية «مستفز»، بزعم أنه يمثل طوق نجاة للمعارضة المسلحة والمتطرفة، التى ترفضها مصر أصلا، وهو ما جعل البعض يعتقد أن مصر بدأت إعادة النظر فى موقفها، تمهيدا للانتقال إلى المعسكر المناهض لموسكو.
الواضح أن هؤلاء تجاهلوا طبيعة المعطيات داخل مجلس الأمن، وأنه من الصعوبة تمرير قرار، دون موافقة أو عدم اعتراض من قبل الدول الخمس، صاحبة حق النقض (فيتو)، أى روسيا والصين والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، بمعنى أن مصر تدرك أن قرارها لن يمر بسهولة، لكنها أرادت توصيل رسالة مهمة، بشأن خطورة الأوضاع الإنسانية فى حلب، كما أن دعمها للنظام السورى له ضوابط أخلاقية أيضا.
وهو ما يحيلنا إلى التوقف عند جملة من الثوابت والمباديء، يمكن القول إنها حاكمة للموقف المصرى فى سوريا، بصرف النظر، عما إذا كان يصب بعضها فى مربع النظام، أو خندق المعارضة، الأمر الذى يفسر جانبا من التحركات التى اعتبرها مراقبون بمثابة «التباس»، بينما هناك من نظر إليها بحسبانها «غموضا بناء»، يهدف إلى تجاوز التناقضات التى خيمت على مواقف قوى إقليمية ودولية عدة، ويمنح مصر مساحة أوسع للحركة، فى ظل تطورات غاية فى التعقيد، وتحولات لا أحد يقطع إلى أين سيذهب مداها، ومتى تتوقف مفاجآتها؟
الترمومتر الذى يمكن للمراقب أن يقيس به الموقف المصري، ظهرت معالمه فى كثير من التصريحات والتلميحات السياسية، وأول معاييره، الحفاظ على وحدة الدولة السورية وهويتها العربية، لأنه صمام مهم للأمن القومى المصرى والعربى عموما، والتفريط فيه، سوف يفضى إلى تداعيات إستراتيجية خطيرة على مجموعة من المعادلات الإقليمية، ومرجح أن تؤدى إلى نتائج سلبية على الدولة المصرية.
ولا يزال هذا التقدير، أحد أهم العناوين الواضحة فى الرؤية المصرية حيال سوريا، ربما يكون هذا المعيار صب فى مصلحة نظام الرئيس بشار الأسد لعدم وجود بدائل مناسبة له، وقدرته على الضبط والربط، لكنه لا يعنى أنه موقف سلبى من المعارضة المعتدلة، التى يتواجد بعضها فى القاهرة منذ فترة، ولا يعنى توجيه لطمة مقصودة على وجه من يتصرفون دون اكتراث بمصير الدولة السورية.
وثانى المعايير، يتعلق بحق المعارضة المعتدلة المشاركة فى السلطة، وقد استضافت القاهرة مؤتمرين فى هذا السياق، وشاركت فى غالبية المؤتمرات واللقاءات السياسية التى عقدت لهذا الهدف، ولم يتزحزح موقفها الرافض لجماعات العنف، التى أدرجها مجلس الأمن على لائحة الإرهاب، أو تلك التى تتعامل معها بعض الدول على أنها متطرفة، وهو ما أثبتت الأيام صوابه، وبالتالى فالسياق العام يؤكد أن هناك إيمانا بدور المعارضة المعتدلة فى تحديد مستقبل سوريا، ضمن إطار وحدة الدولة، وليس تمزيقها إلى أشلاء، كما يتمنى البعض، أو بسبب سوء تقديرات البعض الآخر.
وثالث المعايير، يخص إعلاء فكرة التسوية السياسية، ورفض الاعتماد فقط على الحلول العسكرية، وحتى عندما أصبحت الأخيرة واقعا ملموسا على الأرض، بدا النهج المصرى متمسكا بالتسوية، دون تجاهل حق الجيش السورى فى الدفاع عن وطنه، وعدم التردد فى الإعلان عن تقديم المساندة اللازمة له، لأنه الجهة الوحيدة القادرة على الحفاظ على وحدة الدولة، وظل نهج الحل السياسى واضحا، فى كثير من الحوارات والمناقشات التى شاركت فيها مصر.
أما المعيار الرابع، فهو يخص تقديم المساعدات الضرورية لوقف النزيف الإنساني، فبعد هجرة الملايين من ديارهم، ومصرع مئات الآلاف، بسبب استمرار آلة الحرب الجبارة، أصبح هذا البعد قاتما، فإذا وجدت النوايا للمساعدات، تعثرت القدرات على توصيلها، ولهذا السبب منيت سوريا بأكبر كارثة إنسانية فى الوقت الحاضر، وهو ما كان أحد الدوافع لتبنى مصر مشروع القرار الأخير، الذى أجهضه الفيتو الروسى والصيني.
المعايير أو الثوابت السابقة، تتعارض أو تتفق مع حسابات بعض القوي، المحلية والإقليمية والدولية، لكنها تصلح لتفسير كثير من التصرفات نحو الأزمة فى سوريا، وبالتالى عندما تصطدم رؤية مصر مع بعض الدول الصديقة والحليفة، التى تتبنى مواقف حدية، لا يعنى ذلك الوصول إلى قطيعة مطلقا، ووصف السيد لافروف للموقف مصر من مشروع القرار الأخير بأنه «مستفز» يمكن فهمه فى سياق التباين النسبى المقبول بين الدول، وليس على أنه مؤشر لخلاف محتمل بين القاهرة وموسكو فى سوريا، كما يحاول البعض الترويج له، والإيحاء باستشعار أن ثمة تغيرا مصريا نحو سوريا.
ما يدحض فكرة أصحاب هذا الاتجاه، أن التطورات الحاصلة تميل جميعها لصالح رؤية القاهرة، وتبقى المعايير التى نقيس بها ترمومتر أو بوصلة التوجهات المصرية، صائبة لفهم دلالات الغموض ثم الوضوح.