ينظم الدستور المصري ويكفل لرئيس الجمهورية حق إصدار عفو رئاسى بموجب المادة 149، والتى بموجبها من حق الرئيس العفو عن العقوبة وتخفيفها، أما العفو الشامل فلا يكون إلا بقانون، وذلك وفق شروط معينة حددها القانون، وبعيدا عن تفاصيل ما يسمى بالعفو الرئاسى الذى يملكه رئيس الجمهورية، نسأل هل من حق جهة أو هيئة أن تنظم فكرة العفو عن مصر، بمعنى آخر الإفراج عن مصر من سجون الفساد والاستبداد وانتهاك كرامة مواطنيها عبر العصور المختلفة؟!.
هل من هيئة شعبية تصلح لأن نطلق عليها هيئة ضمير مصر، تعيد النظر فيمن أوقعته أحداث التدافع السياسى وأنظمة الحكم منذ ثورة يوليو 1952 وحتى اليوم من ظلم، بالطبع لدينا الحق فى التقاضى الذى كفل لمن تضرروا ماليا مثلا من ثورة يوليو وقرارات التأميم أن يستعيدوا ممتلكاتهم إذا كانت قد سلبت منهم بالفعل بغير وجه حق، لكن هل استرد أحد ممن أهينت كرامتهم أو انتهكت حرياتهم حقه أو بعض حقه؟!.
هل يتحول العفو الرئاسى إلى ورقة توت تستر عورات كل نظام، وتصبح المفاضلة بين الأنظمة حول من أصدر عددا أكبر من قرارات العفو، بمعنى إذا تفوق الرئيس فى إصدار قرارات العفو فقد حاز عهده شهادة براءة من الفساد والاستبداد وانتهاك كرامة المواطنين أم ماذا؟!.
هل تبدو قرارات العفو مؤشرا حقيقيا لقياس رشد وعدالة نظام الحكم، بمعنى آخر هل المقارنة بين عبدالناصر والسادات ومبارك ومرسي والمجلس العسكري وعدلي منصور ثم السيسى تصلح معها قرارات العفو مؤشرا دالا وكاشفا؟.
لو مضينا مع هذا المؤشر سنجد أن الرئيس جمال عبدالناصر أصدر فى العام 1954 قرارا بالإفراج عن 20 ألف سجين، لكن لا يذكر أحد أنه أصدر فى العام 1965 قرارا بالقبض على كل من سبق القبض عليه، ومع ذلك يذكر البعض هذا الرقم فى التدليل على سعة عفوه بصرف النظر عن سياقات القبض على البعض أو الإفراج عنهم فهذا حديث آخر ربما.
السادات استخدم حق العفو فى الإفراج عن المئات من أفراد الجماعات الإسلامية، كما هدم العديد من المعتقلات السياسية وحاول أن يبدو الرئيس الذى ينهى حقبة الاعتقال السياسي، وان كان البعض برر لعودة الاعتقال السياسي وممارسات العهود السابقة بمقتل السادات على يد تلك الجماعات، دون أن يتحدث عن خيارات السادات الخارجية والداخلية الكارثية.
مبارك افتتح عهده بالعفو عن معتقلي 5 سبتمبر، ومن أبرزهم محمد حسنين هيكل وفؤاد سراج الدين والبابا شنودة وعمر التلمسانى، لكن عهده حفل بالإعتقالات والتعذيب وتعاظمت انتهاكات الشرطة على نحو ما شهدنا وبلغ ذروته بثورة يناير فى محاكمة لجملة عهده الأسود.
المجلس العسكرى أصدر بشكل روتينى قرارا للعفو شمل 203 سجينا بمناسبة عيد تحرير سيناء دون أن يحاكم على جرائمه بحق الثورة والشعب.
محمد مرسي الرئيس المعزول استخدم هذا الحق بانتقائية شديدة، عكست مصالح جماعته حيث إستخدم هذا الحق 5 مرات فى عام واحد هى كل فترة حكمه حيث أوقف تنفيذ عقوبة الإعدام عمن قاموا بمحاولة إغتيال مبارك بالإسكندرية، وكذلك عفا عن منفذى حادث الأزهر فى 2005 وقضية التنظيم الدولى للإخوان وبعض سجناء الجهاديين بسيناء.
عدلي منصور استخدم الحق الروتينى الذى شمل 63 سجينا بمناسبة عيد تحرير سيناء، فى استكمال لشرائط وإجراءات مرحلة أراد لها البعض أن تكون نموذجا فى التقيد بالإجراءات، دون الموضوع الذى لم ولن يناقشه أحد.
السيسى مزج بين تلك الإجراءات القانونية بإصدار قرارات عفو رويتينة وأخرى لأهداف سياسية، كالإفراج عن 80 من المعتقلين السياسيين بانتهاك قانون التظاهر وغيرها من التهم السطحية، حيث لم تشمل الإجراءات أيا ممن ينتمون إلى معارضة جادة لحكمه.
يكشف استعراض قرارات العفو من عهد ناصر وحتى السيسى أننا أمام قرار يملكه رئيس الجمهورية تحركه فيه حسابات خاصة جدا، تتعلق بضمان استقرار حكمه وإعطاء مسحة من الإنسانية على الصورة الذهنية لعهده.
لكن الأمر المؤكد أن العفو عن مصر لم يتحقق ولا يبدو أننا ظفرنا بعد برئيس يريد أن يعفو عن مصر، فيفرج عنها من سجون الاستبداد والفساد وانتهاك حقوق مواطنيها وحرياتهم.
لدينا مجلس قومي لحقوق الإنسان رضى الدنية من الحقوق للشعب، وقبل أن يبقى محللا لسلوك النظام فلا يستدرك عليه سوى بملاحظات هامشية لا تهذب شيئا من سلوكه أو تدفعه لشىء من الرحمة أو الشفقة بهذ الشعب.
لم يضبط المجلس القومى لحقوق الإنسان يوما متلبسا بالدفاع عن الحقوق الاقتصادية أو الاجتماعية، فضلا عن السياسية التى لم تعد الأحزاب تدافع عنها لتدافع عنها أى جهة أخرى ولم يستطع المجلس بما ضم من قيادات لها تاريخ نظيف أن يفعل شيئا.
فى ظل غياب أى هيئة أو جماعة أو حزب أو نظام يدافعون عن مصر، يبقى السؤال من يطالب بالعفو عن مصر بحق حتى تبرأ من أوجاعها التي طالت، من يتقدم ليطالب بحقوقها ويحاكم كل من ظلمها ولازال يظلمها، السؤال يبقى معلقا حتى تجيب عنه الحركة الوطنية المصرية إن كان لدينا ثمة شيء يحمل هذا الاسم.