البديل
مايكل عادل
تخيّل!
لم تكن المرّة الأولى ولا الأخيرة لمقابلته، ولكنني آثرت الصمت نظراً لحساسية التوقيت ولإرهاقي الشديد منذ بداية اليوم فلم أكن قادراً على الحديث، وكل ما كنت أتمناه هو أن أنام قليلاً في مخزن الكتب قبل أن يقتلني التعب.
تسرّبت في هدوء إلى المخزن وافترشت عدداً من الكتب الملقاة على الأرض وبدأت خيالات النور والظلال تداعب عيني التي لم تعد أجفانها قادرة على الإبقاء عليها مفتوحة منذ استيقظت على الخبر المفجع ورأت تلك المشاهد المشحونة بالشجن.
“الليل مشحون أسرار وشجون
وألم وندم وكاسات ونايات
ودموع وآهات
وعِبَر وحِكَم..”
كعادتي قبيل النوم، بدأ عقلي في سرد عدد من المشاهد منها ما حدث من قبل ومنها ما أخشى أن يحدث ومنها ما أتمنى وقوعه. رأيت ما حدث في تلك الغرفة قبل أعوام، ففي مخزن الكتب وغرفة “صباح” المسؤولة عن التنسيق الداخلي للكتب في دار “ميريت” للنشر كانت تلك الجلسة التي جمعتني بأحمد فؤاد نجم والشاعر الكبير إبراهيم عبد الفتاح الذي راح يرتجل القصائد على نهج شعراء آخرين بطريقة هزلية وبكلمات فكاهية ويترك نجم ليخمن من هذا الشاعر الذي يقصده إبراهيم، رأيتني بينهما جالساً كطفل يراقب الكبار ويستغرق في الضحك حتى يسقط من فوق مقعده –الذي لا يتجاوز كونه بضعة كتب متراصة فوق بعضها- منتشياً بتلك الجلسة الخفيفة والحكايات التي تعقب كل اسم من الأسماء التي يذكرها النديمان.
“ومشيت في الليل خجلان مكسوف..
إكمن الليل عريان مكشوف
أفراح الناس.. وجراح الناس..
على صدر الليل عناقيد وصفوف..”
وقعت الكتب وتناثرت مرة أخرى وتبدّلت ملامح الغرفة في حركة سريعة مجدداً لأجدني بصحبة العم نجم متسائلاً عن قصيدته التي أحبها “بلدي وحبيبتي”، من أين له بتلك الرومانسية الحالمة الممزوجة بحب الحياة والكون والوطن مجتمعين في مقلتيّ حبيبته التي اختطفته يد الأمن من أحضانها في ذروة الحلم.
روى لي القصة التي لم تخل من الضحك والبكاء والصدمة مضيفاً أن “عزة الخميسي” التي كتب لها تلك القصيدة البديعة هي ذاتها التي كتب فيها قصيدة أخرى بها ما لذ وطاب من فنون الهجاء والسخرية والمرارة بعد النهاية المأساوية لقصة حبهما. وفي تلك الجلسة الهادئة أخبرني بما يختبئ خلف بسمة سخرية الرجل الشقي القوي الساخر المنفلت من قصص وأوجاع قرأنا عن بعضها كثيراً ولكننا لم نتصوّر مدى عمق تأثيرها في روحه وكيانه، ليختتم كل قصة والأخرى بعبارة: “وراحت عملت كذا.. تخيّل!” لأهز رأسي في خضوع تام لمأساته ليضيف: “وأنا كنت هسكت يعني؟” لأبتسم وأصمت كي أشغل أقل مساحة ممكنة من الحوار وأحصل على أكبر قدر ممكن من الكلمات، من الرجل الذي سبقته كلماته إلى حياتي قبل أن أصافحه يدّاً بيد في أول لقاء بيننا.
“أنا دُقت الجرح وخَدت عليه
يسقيني المُر..
وبرضه اسقيه..
من بَحر الصبر اللي في قلبي
هتقول لي بتِشكي اومّال من إيه؟
ولا من أوجاع
ولا شوق لمتاع
ده انا عُمري إن ضاع مش هبكي عليه
أبداً يا طبيب..”
وسقطت الكتب وتناثرت ثم أعيد ترتيبها مرة أخرى لتنفتح عيني على الضوء ذاته والضجيج في الخارج، هو الضجيج نفسه الذي كان يصاحب قدوم العم نجم بصحبة أم زينب وإبراهيم داود وميشيل غالي لنستعد لجلسة من الغناء والضحك والحكي والشعر والحديث عن المستقبل والماضي والحاضر العجيب.
توقعت أن أجده جالساً كما كان إلى جوار “رامي يعسوب” عازف العود ليبدأ في غناء رائعة “سعاد محمد” قائلاً بصوته الخشن الدافئ: “من غير حب الدنيا دي إيه؟ من غير حب نعيش على إيه؟” ولكنني خرجت ولم أجده، بل وجدت جميع العائدين معي من الدفنة يستعدون ليتم توزيعهم على السيارات لنصل جميعاً إلى جامع بلال بن رباح بالمقطم لنأخذ العزاء في نفس الرجل الذي كان معي في الغرفة منذ قليل قبل أن تغلبني اليقظة لأفيق على الواقع الذي لا مفر منه. فقد مات “أحمد فؤاد نجم”، تخيّلوا!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف