محمد حماد
حديث إلى النخبة: تفاءلوا بالشعب تجدوه
هذه الأيام افتقد الكثيرون ممن حلموا بيومٍ تقوم قيامة الشعب فيه، على رأس هؤلاء المفكر الكبير محمد عوده، ومعه كوكبة من شباب مصر الذين حلموا بأن يقطفوا قرص الشمس هدية لمصر ثم قضوا قبل أن يروا حلمهم وقد تحقق على الأرض..
كان هو أول من أمسك قلمه ليشطب لي كلمة هنا أو عبارة هناك في أول حوار صحفي أجريته معه، فأعطاني أول درس في حياتي المهنية ، ثم كان هو ثاني اثنين شجعاني على قراري بترك المحاماة، التي تركتها مع أول دعوة لي للكتابة المنتظمة في مجلة “الموقف العربي”، وكان التكليف الأول أن أجري حواراً مع الأستاذ محمد عوده، المناسبة عن ثورة يوليو، والسؤال: ماذا تبقى منها؟، وكتبت الحوار، وتفضل الأستاذ عوده بمراجعته بناء على إلحاح مني، ولم يفعل غير أنه شطب كلمة في جملة، أو جملة في فقرة، وكنت أتابع قلمه وهو يشطب الكلمة فأحس أن الجملة استقامت، ثم وهو يحذف الجملة فينبعث المعنى ويصبح أكثر وضوحاً، عرفت يومها درسي الأول في المهنة، أن أزن الكلمة بميزان الذهب، وأن أضعها موضعها، وتعلمت يومها أن الحشو ليس مجرد لغو في الكتابة، ولكنه فضلاً عن ذلك، إهدار للصياغة الرشيقة، وعدوان على المعنى المراد.
وفي بلاط صاحبة الجلالة تعرفت عن قربٍ بكبار في عالم القلم والأوراق، كان لكلٍ منهم بصماته على جيلنا الذي التحق بالصحافة، ولكنه وحده محمد عوده الذي كان بالنسبة لنا “الأسطى” والأستاذ الذي لقننا أن القلم انحياز للتقدم، وأن الحرف مسئولية تجاه الوطن، وأن الصحافة هي بالأساس صوت الشعب، وليست صوتاً للحاكم، تعلمنا منه أن أصوات الحكام دعاية وبروباجندا، وأن صوت الشعب وعي وفكر واستنارة..
**
حين كانت شياطين اليأس تجتمع عليَّ ، وتحوم حول رأسي غربان التشاؤم، كنت أبادر بالذهاب إليه في شقته المتواضعة بحي الدقي، كان الله يرحمه يمتلك ملكة فطرية على التفاؤل، قادراً على بث الأمل، وبعثه من جديد، وكان تفاؤله خاصة بتغيير الأحوال يفوق قدرتنا على فهم دواعيه وأسبابه الخفية التي يحتفظ بخلطتها السرية لنفسه.
لم أجده خارج منطقة التفاؤل، حتى في أصعب اللحظات، وأحلك الظروف، وأسوأ الأحوال، كنتَ تجد محمد عوده قادراً على رؤية الجانب الآخر، ذلك الذي لا تراه العين العادية، العين التي لم تدرب على التقاط أشعة الأمل، تلك التي لا ترى بالعين المجردة، ولا يمكن قياسها بالأجهزة العادية لقياس الأشعة، ولكن عين محمد عوده المدربة على التقاط بصيص الأمل من بين ظلمات الواقع وظلاميته كانت دائماً ترصد لنا النور الآتي من بعيد.
حاولت أكثر من مرة أن أستجلي الأسباب التي تضعه دائماً أعلى فنارات مرافئ التفاؤل، لكنه بقي محتفظاً بسره حتى رحل، وحاولت مع كثيرين من محبيه أن نخمن الأسباب التي جعلته هكذا مدمناً على الأمل، متعاطياً للتفاؤل في كل وقت وحين، وذكر محبوه في ذلك أسباباً وأسبابا، وتنوعت إجاباتهم على تساؤلاتي، ولكنها كلها لم تقنعني، ولا هي استطاعت أن تفك لغز صديقي الراحل الكبير.
شيء واحد أتصور أنه هو المفتاح الذي احتفظ به محمد عودة ليشرع أبواب الأمل إذا أوصدت في وجه النخبة السياسية التي سرعان ما تفقد الأمل في إمكانية التغيير في ساعات الظلمة، هذا الشيء أنه كان يؤمن بثقة في قدرات هذا الشعب، كان يؤمن بعظمة الشعب وجدارته، ولا زلت أذكر كيف كان يأخذني بدون مقدمات ولا أسباب ليطوف بي في شوارع مصر الفاطمية، أو يدفعني دفعاً إلى التجول معه مستنداً على كتفي في بولاق الدكرور، يمشي في شوارعها وحواريها، كأنه يتلقى الوحي من أنفاس الذين عاشوا داخل أسوار القاهرة القديمة، أو كأنما يتلقى الأمل من الذين يعيشون في أزقة الأحياء الأكثر شعبية، والأكثر فقراً، كان يحسب نفسه عليهم، لم أره يوماً ينظر من بلكونة شقته التي تطل على شارع الدقي، ولكني رأيته عشرات المرات وهو يتطلع إلى الجانب الخلفي لشقته الذي يطل على ناس “داير الناحية”، كأنه يطمئن على أهلٍ له هناك، أو كأنه لا يمل من النظر في وجوه أتعبتها مشقة البحث عن لقمة العيش.
درس محمد عوده الحقيقي، هو تفاءلوا بالشعب تجدوه، وكان يتهم النخبة بالتقاعس، ويحملها مسئولية الأوضاع المتردية في مصر، بأكثر مما تتحملها الحكومة العاجزة عشر مرات، وكان مقتنعاً بأن الحل يكمن في تكوين جبهة وطنية تجمع التيارات المصرية الأصيلة ويرى أنها وحدها القادرة على النهوض بالمهمة، وكان اليساري الوحيد الذي عرفته يطالب ويوافق على قيام حزب إسلامي حديث يواكب متطلبات العصر بمرجعية إسلامية، ويوافق من ثم على إدخاله في الجبهة الوطنية الساعية إلى إنقاذ مصر مما وصلت إليه.
كان وعيه الحاضر دائماً بيننا هو الذي يقينا مصارع “الوعي المفقود”، وكانت ثقته في الشعب بلا حدود، وكان يردد أمامنا مقولة حكمدار مصر وحاكمها لمدة 30 سنة “جون راسل باشا”:
“المصريون مثل رمال الصحراء الناعمة، تستطيع أن تمشى فوقها مسافة طويلة، ولكنك لن تعرف متى تفاجئك، وتتحرك، وتبتلعك”.