المصريون
جمال سلطان
دلالات انتصار ثوار ليبيا على داعش
بعد حرب شرسة استمرت ستة أشهر وبإمكانيات عسكرية متواضعة إذا قيست بمستويات التسليح التي نراها في العراق وسوريا للتحالف ضد داعش ، نجح ثوار ليبيا ـ قوات البنيان المرصوص ـ في تحقيق هزيمة ساحقة لتنظيم داعش في مدينة سرت التي اعتبرها التنظيم عاصمة دولته الافتراضية في شمال أفريقيا ، ونشرت الفزع في العواصم الأوربية من كون التنظيم أسس بالفعل دولة له في شمال أفريقيا ومن الصعب محاربته في ظل الانقسام السياسي والعسكري في ليبيا وغياب أي حكومة مركزية قوية ، فعلها الرجال ، ونجح ثوار ليبيا في تحقيق النصر الكبير الذي أذهل العالم ، وقد ظل تنظيم داعش يقاتل بشراسة غريبة حتى آخر بيت وليس آخر حي في مدينة سرت ، ولكنه في النهاية هزم هزيمة مدوية وخسر هناك حوالي ألفين من مقاتليه حسب بعض التقديرات . هذه هي المرة الثانية التي يحقق فيها ثوار ليبيا انتصارا على داعش ، فقد فعلوا ذلك في مدينة درنه في الشرق الليبي قبل ذلك ، غير أن شوكة التنظيم وإمكانياته لم تكن تبلورت بهذه الصورة على النحو الذي حدث في سرت ، والتي وصلت إلى حد انتشار تقارير عن انتقال زعيم داعش "أبو بكر البغدادي" من الموصل إلى سرت لاتخاذها عاصمة أكثر أمنا وأكثر إحكاما من الموصل والرقة . انتصار ثوار ليبيا أبطل بصورة عملية الخطاب السياسي الذي تروجه أنظمة عربية معادية للربيع العربي بأن "جيش حفتر" هو الوحيد المؤهل لتحرير ليبيا من داعش والإرهاب وينادون بضرورة دعمه ، وهو خطاب قصد به تسويق الجنرال المتمرد دوليا لمحاولة تنصيبه حاكما عسكريا لليبيا ومنع تشكيل حكم ديمقراطي يستوعب الطيف الليبي ويحقق السلام الاجتماعي هناك ويعمل على نهضة البلاد التي عانت من التدخلات الإقليمية المتشعبة لإفشال ثورته المظفرة ضد القذافي ، وهي التدخلات الإقليمية التي أدت إلى تمزق النسيج الليبي والانقسام الحالي بين حكومة طبرق غير الشرعية وحكومة طرابلس ـ حكومة الوفاق ـ التي يعترف بها المجتمع الدولي ، وحيث قامت قوى إقليمية بضخ أموال ضخمة وأسلحة متنوعة لكتائب حفتر من أجل دعمه وتمكينه من فرض مشروعه لعسكرة النظام السياسي في ليبيا ، غير أنه حتى الآن لم يحقق حسما ولا نتائج ذات أهمية بخلاف عملية سطوه على آبار النفط في المنطقة الشرقية ، وكان قد أعلن حربا مزعومة على الإرهاب في بنغازي منذ قرابة عامين ، ما زال غارقا فيها حتى الآن ، لأنه يحارب كتائب الثوار بالفعل هناك "مجلس شورى ثوار بنغازي" وهي الكتائب التي أسقطت القذافي ، وإن كانت بنغازي تتداخل فيها مجموعات أخرى صغيرة متطرفة وبعض فلول داعش ، وقد تحولت معظم بنغازي إلى خراب بسبب حرب حفتر العبثية ومحاولته فرض السيطرة وتحقيق حلم الزعيم العسكري ، نسخة القذافي المعدلة ، وما زالت بنغازي تدفع حتى اليوم ثمن هذا الجنون . النصر الكبير الذي حققه ثوار ليبيا على داعش مرتين ، في درنه ثم في سرت ، أوصل الرسالة للمجتمع الدولي ، فصدر أمس بيان جديد عن مجلس الأمن الدولي يؤكد فيه على أنه لا يعترف بشرعية في ليبيا إلا شرعية حكومة الوفاق في طرابلس ، المظلة السياسية التي تعمل تحتها كتائب ثوار ليبيا ، وأكد على دعمه السياسي لها ، وهذا يعني أن مشروع حفتر أفقه مسدود ، وسقف طموحه الآن يقف عند فرصة أن يكون وزيرا للدفاع يعمل تحت قيادة سياسية لحكومة الوفاق ، وحتى هذا السقف لم يعد متاحا ، لأن الغالبية العظمى من ثوار ليبيا ترفض أي دور له بعد الجرائم التي ارتكبها وشهوة الحكم الطاغية التي بدت في سلوكياته حتى مع برلمان طبرق الذي يرعاه سياسيا . انتصار ثوار ليبيا على داعش وتحرير سرت بنصر حاسم أعاد الاعتبار لثورات الربيع العربي ، وأكد من جديد على أن الشعوب إذا امتلكت إرادتها وقرارها فإنها قادرة على حسم المعركة ضد الإرهاب وتطهير البلاد منه خلال أشهر قليلة ، بينما جيوش نظامية بميزانيات تسليح وتدريب مفتوحة وضخمة كما هو الحال في العراق ودعم عسكري هائل من عشرات الدول ، لم تفلح بعد سنوات في تحرير الموصل أو تحرير الرقة السورية حتى الآن ، وهذا ما أضعف الخطاب السياسي المعادي للربيع العربي والذي حاول تشويهه على أنه صانع للإرهاب وممكن له ، الآن ثبت ـ من خلال تجربة الرجال في ليبيا ـ أن الربيع العربي ـ وليس الجنرالات ـ هو الضمانة الحقيقية ضد الإرهاب ، وهو القادر على سحقه وحماية الإنسانية من شره . الصمت والكآبة التي تظلل الديبلوماسية الرسمية والإعلام الرسمي في عدة عواصم إقليمية تجاه هزيمة داعش في سرت ، وحالة الحزن التي تتسلل من خلال التعليقات المتحفظة على ما جرى ، كاشفة بوضوح لحقيقة أن الكثير من الأنظمة كانت تتاجر بقضية داعش والنفخ فيها لتقول أنها وحدها التي تحارب الإرهاب وتنوب عن العالم كله في مواجهته ، لتمرير تآمرها على الربيع العربي ووقف المسار الديمقراطي ومحاصرة الشعوب وقهرها وحرمانها من أشواق الحرية والكرامة والعدالة . المجد لمئات الشهداء من شباب ليبيا الأبطال الذين قدموا أرواحهم فداء لوطنهم ونصرا للربيع العربي وللإنسانية كلها ، وأتمنى أن تنتصر ليبيا في معركة السلام والتوافق كما انتصرت في معركة السلاح ، وأن يبعد عنها شر القريب والبعيد .

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف