شبكة التجارة بالأعضاء البشرية التى تم القبض على أعضائها مؤخراً تقدم لنا صورة مصغرة ومضفرة للحياة فى مصر. من يريد أن يتعرف على حياة البشر فى مصر حالياً ليس مطلوباً منه أكثر من الاطلاع على تفاصيل هذه القضية، وسيجد نفسه منساقاً فى النهاية إلى ترديد هذه العبارة التى جرت مجرى الأمثال، وجاءت على لسان بطل فيلم «الصعود إلى الهاوية» -المبدع محمود ياسين- حين قال للجاسوسة الحسناء (مديحة كامل رحمها الله): «هى دى مصر يا عبلة»!.
الحياة فى بر مصر حالياً يمكن أن تختصرها فى عبارة واحدة نافذة «البحث عن المال من أى طريق». وهى ذات العبارة التى يمكن أن تلخص بها مشهد القبض على عصابة «الاتجار فى الأعضاء البشرية». اكتشاف هذه العصابة جاء -بالصدفة- على يد ربة منزل سقطت فى أيدى الأجهزة الأمنية منذ 10 أيام، أثناء محاولتها التخلص من جثة طفل، وكشفت التحقيقات التى أجريت معها أن هذا الطفل هو ضحية سابعة من الضحايا الذين استخدمت السيدة أجسادهم كمادة خام لبيع الأعضاء البشرية، من هذا الخيط بدأت بقية خيوط الحكاية فى الكر، حتى اكتشفت جهات التحقيق أن وراء المسألة عصابة كبيرة تضم سماسرة وأطباء وممرضين وأساتذة جامعات، وثبت من التحقيقات الأولية أن شخصيات كبيرة ورجال أعمال استفادوا من خدماتها، وأن عمليات نقل الأعضاء كانت تتم فى مستشفيات غير مرخصة، أما أغلب موردى القطع البشرية فهم من الفقراء الذين يقدر الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء نسبتهم بـ24% من إجمالى المصريين. حدوتة «الاتجار بالأعضاء» تبدأ بفقير أعطاه الله الصحة وحرمه من المال، كما حرمه أيضاً من نعمة الوعى السليم الذى يمكنه من وزن الأمور بميزانها الصحيح، ليفهم أن كل إنسان يأخذ نصيبه فى هذه الحياة كاملاً غير منقوص، لكن قسمة هذا الحظ تختلف من شخص إلى شخص، كذلك قضت مشيئة الله. فقير سمم المجتمع وعيه حين علمه منذ نعومة أظفاره أن المال هو القيمة الأعلى فى الحياة، وأن القدرة على الشراء والاستهلاك وإشباع التطلعات تفوق فى قيمتها الصحة والقدرة على العمل، فاندفع إلى بيع قطعة من لحمه أمام وطأة الفقر أو الحاجة أو التطلع، يتلقفه بعد ذلك كبير يحوز المال ولا يملك الصحة، كبير يفوق إيمانه بالمال إيمانه بأى شىء آخر، يسيطر عليه شعور بأنه يستطيع أن يشترى كل شىء بماله، بما فى ذلك الصحة، فيدخل فى عملية مقايضة مع فقير صحيح يتم تبادل الأرزاق فيها، وتتم العملية من خلال سمسار، يبحث عن الرزق السريع بأقل مجهود، ويتولى كبر التنفيذ بعد ذلك أطباء وأساتذة جامعات «شمال»، يريدون حصد المال الوفير من أقصر طريق ممكن، أطباء وأساتذة يحتقرون العلم الذى صنع وجودهم، ويرون أن المال أكثر قيمة مما علمهم العلم من أخلاقيات. ويكون مسرح العملية فى النهاية مستشفيات تتشابه مع محلات الجزارة التى تتعيش على التجارة فى لحوم البشر!. التشكيل العصابى للاتجار فى أعضاء البشر صورة مصغرة لمصر الكبرى التى اختل وعى فقرائها، وتجبر أغنياؤها بما لديهم من مال، وانهارت أخلاق أصحاب العلم فيها أمام المال، وغاب فيها المسئول عن أداء دوره، إلا عندما يجد نفسه فى موقع الفاعل بمحض الصدفة..!.