يوم الاثنين الماضى.. قضيت نهاره من أول ضوء إلى ما قبل غياب الشمس بقليل.. بمركز تدريب المدفعية.. فى إطار الدعوة الموجهة من إدارة الشئون المعنوية إلى وسائل الإعلام.. لتعيش يومًا فى حياة مقاتل.
أنا شخصيًا استفدت كثيرًا من هذا اليوم الرائع!.
طاقة إيجابية.. معنويات وطمأنينة وثقة وتفاؤل.. جاءوا فى وقتهم!. ليه؟.
لأننا.. أنا وأنت وهى وهو.. وضعنا أنفسنا هدفًا ثابتًا لكل طاقات الدنيا السلبية!.
دون أن ندرى.. تركنا الوعى يكمن.. وفى غياب الوعى.. «جهاز المناعة العقلى».. يخرج «خارج الخدمة»!.
الوعى لم يعد موجودًا.. كَمُنَ أو هرب أو زهق أو أى وصف.. المهم أنه طفح الكيل من كثرة الهرتلة الموجودة بشدة من خمس سنوات.. بعد أن تركنا كل شىء وتفرغنا للخلاف مع بعضنا البعض فى كل حاجة «وعلى أى حاجة» وكأننا موجودون فى الدنيا لأجل الخلاف والكراهية والبغض والكذب وكل ما هو سلبى!.
المصيبة أننا نفعل هذا فى أنفسنا.. بالتزامن مع حرب نفسية رهيبة قادمة من الخارج وهدفها الإنسان المصرى ولا شىء غيره!.
محصلة ما نفعله فى أنفسنا هنا مع القادم لنا من الخارج.. أننا أصبحنا نُصَدِّقُ ما لا يُصَدَّقُ وننكر ما يستحيل إنكاره!. أصبحنا أكبر خطر على أنفسنا.. لأننا نرفض قبل أن نسمع ونقتنع قبل أن نعرف!. الخلاصة.. تصديق كل ما يُصَدَّر لنا من شائعات وفتن وكراهية وخلافات وكل ما هو ردىء وسيئ!.
وسط هذا المناخ «المسموم».. عشت يومًا على أرض «يُشِعُّ» إيجابية.. وسط شباب مصرى من كل مصر.. مضى عليه 45 يومًا فى الحياة العسكرية!.
فى الحياة العسكرية.. الوقت كامل البركة لأن الحياة تبدأ فجرًا فى الخامسة!. فى الحياة المدنية اليوم منزوع البركة لأنه يبدأ حسب التساهيل.. وكل واحد ومزاجه فى السهر.. وعلى قدر السهر فى الليل تتحدد بداية اليوم فى النهار.. والمتوسط العاشرة صباحًا.. وأى بركة ننتظرها ومنا الراقد فى سريره حتى العاشرة صباحًا.. هو لا يدرى أنه نسف خمس ساعات كاملة من نهار يومه الذى هو يبدأ فى الخامسة فجرًا!. المدهش أننا نستغرب ونشكو ضيق الوقت وقلة البركة فى الوقت!.
فى مركز تدريب المدفعية.. شأنه شأن كل وحدة عسكرية.. تعليمية أو مقاتلة.. اليوم يبدأ الخامسة فجرًا.. لأن وقت النوم العاشرة مساءً.. وسبع ساعات نومًا فى الليل.. كافية جدًا لتعافى الجسد واستعادته لنشاطه البدنى والذهنى!.
النوم فى ميعاد والاستيقاظ فى ميعاد.. نظام والتزام.. وقولًا واحدًا.. النظام والالتزام وراء كل نجاح!.
النظام والالتزام بوابة الدخول إلى الحياة العسكرية وكلمة السر فيها.. وبدونهما لا حياة ولا عسكرية!.
مع أول ضوء وصلت مركز تدريب المدفعية.. ومن أول خطوة وأول لحظة داخله.. اكتشفت أن الصورة المطبوعة فى ذهنى.. لفترة من 1967 وحتى 1975!. صورة عشتها وعايشتها!. وقتها كانت الحياة فى خيام بالنسبة للوحدات التعليمية وملاجئ حديدية تحت الأرض للوحدات المقاتلة!.
هذا الانطباع لم أجد له مكانًا مع أول خطوة داخل مركز تدريب المدفعية!. بسم الله ما شاء الله.. النوم فى مبانٍ على هيئة عنابر!. المركز.. كأى مركز تدريب.. مُعَدّ لاستقبال أعداد كبيرة فى كل دفعة تدريب.. ومن أول لحظة اكتشفت أن المساحات أكبر.. وأماكن التدريب الكثيرة الكبيرة.. أرضيتها أسفلتية وليست رملية وتربطها وكل منشآت المركز شبكة طرق مرصوفة وتظللها الأشجار من الجانبين!.
صالات الطعام.. تِفرِح!.
شاهدت واحدة منها خلال غذاء دفعة مستجدين!. المجند فى الساعات الأولى من حياته العسكرية.. يتم ترحيله من منطقة التجنيد إلى مركز تدريب المدفعية!. المجندون الجدد.. بملابسهم المدنية.. من البوابة إلى صالة الطعام القادرة على استيعاب أى عدد مهما كَثُرْ!.
أول من يستقبلهم فى صالة الطعام.. قائد مركز التدريب بنفسه!.
الشاب المجند الجديد.. تسبقه مخاوفة مما ينتظره.. وجزء كبير من هذه المخاوف.. هو فى الواقع مادة أساسية فى الحرب النفسية على الإنسان المصرى.. وتتكون من حكايات مجهولة المصدر.. لكنها موجودة وبقوة ويتم تداولها وكأنها حقيقة ثابتة!. إنها الشائعات التى تبدأ صغيرة مجهولة غير معروفة!. من الذى ألفها لا أحد يعرف ولا أحد مهتمًا أن يعرف.. وما إن تخرج الشائعة للحياة.. وفى غياب الوعى نجعلها فى لا وقت حكاية كبيرة.. وكيف لا نصدقها ونحن من تداولها وعمل على نشرها.. دون أن نفكر لحظة فى حقيقتها!.
وهكذا الشاب المجند فى أول ساعات حياته العسكرية.. مرعوب!.
هو تحديدًا لا يعرف سببًا محددًا لمخاوفه.. لأنها كلها حكاوى سمعها.. ويوماً لم يرها!.
هذا الأمر تحديدًا يدركه ويعلمه ويعمل له ألف حساب.. القائمون على مركز التدريب.. أى مركز تدريب.. لماذا؟.
لأن الشاب المجند الذى لم يمض على تجنيده ساعات ولم يرتد «الأفرول» بعد.. حياته العسكرية القادمة.. أساسها مركز التدريب والـ 45 يومًا التى سيمضيها الشاب فى مركز التدريب.. وأول يوم فيها.. يوم وصوله المركز.. بالغ الأهمية وأهم ساعة فيه.. هى الأولى.. ومركز تدريب المدفعية.. جعل هذه الساعة الأهم فى قاعة الطعام الكبيرة النظيفة.. وجعل وجبة الغذاء هى لقاء التعارف وهى الخطوة الأولى فى حياة جديدة.. ملامح هذه الخطوة واقع يراه الشباب ليكتشف أن اللحظات التى يعيشها تختلف تماماً عن الحكايات التى سمعها ومخاوفها التى تسبقه!.
الشاب المجند فى أول يوم تجنيد.. معاناته بدنيًا ونفسيًا كبيرة!. بدنيًا.. من بداية اليوم فى منطقة تجنيده وإجراءات وانتقال منها إلى مركز التدريب.. ونفسيًا.. مخاوفه من الشائعات التى تشكل قناعته.. ومن هنا الحرص البالغ على تبديد مزاعم هذه الحكاوى.. فى أول ساعة للشاب المجند.. بلقاء خلال وجبة غداء!.
القائد.. ولا أحد غير القائد.. قائد المركز.. هو من يستقبل الشباب ويتكلم مع الشباب فى صالة الطعام. هم جالسون إلى الموائد.. وهو بعد أن يتناولوا طعامهم.. يرحب بقدومهم.. وبأسلوب عسكرى راقٍ.. يتحدث عن الحياة العسكرية القائمة على نظام والتزام!. القائد يوضح لهم برنامج الحياة داخل المركز المحكوم بنظام يحكم الكل من القائد لأحدث جندى!. القائد يوضح للشباب أن له استحقاقات وعليه واجبات فى إطار نظام يحكم الجميع.. وكل الاستحقاقات لا يملك مخلوق الانتقاص منها!.
عندما تكون الساعة الأولى للشاب المجند فى مركز التدريب.. إعلاء لأبسط القواعد الإنسانية.. الطعام قبل الكلام!. شباب من ساعات اليوم المبكرة يخوضون إجراءات وينتقلون من مكان إلى مكان.. مؤكد أنهم بعد ساعات طويلة فى أشد الحاجة للطعام.. وعندما يصلون إلى المركز.. أول مكان تعرفوا عليه.. صالة الطعام.. ووجبة ساخنة فى انتظارهم!.
حول هذه النقطة.. سألت بيشوى.. وهو من الجنود الذين أتموا الـ45 يومًا تدريبًا وسيتم توزيعهم على الوحدات المقاتلة.. سألته وهو جالس مع والده ووالدته وشقيقه.. حيث كانت هناك زيارة للمجندين من عائلاتهم.. بيشوى خريج كلية التجارة.. وأتم فترة الـ45 يومًا.. قلت له: وأنت مغادر لمركز تدريب المدفعية.. ما هى انطباعاتك.. قال:
أول شىء لاحظته يوم قدومى للمركز وبدد الكثير من مخاوفى.. أن الأوتوبيسات التى نقلتنا من التجنيد للمركز.. أنزلتنا عند صالة الطعام!. كنا جائعين ومرهقين.. وتوقعنا أن هذا اليوم لن نرى فيه راحة ولا نذوق طعامًا.. كما نسمع!. فوجئنا بما رأيناه.. جلسنا واسترحنا وأكلنا.. والمفاجأة الثانية.. كلمات القائد التى جعلتنا نشعر بأننا جميعا أبناؤه.. ومع الأيام تأكد لنا هذا الشعور!.
والدة بيشوى.. شاركت فى الحديث عندما سألتها عن التغيير الذى لاحظته على ابنها عندما نزل أول إجازة بعد الـ45 يومًا.. ابتسمت وقالت: الشهر ونص غيروه!. بيقوم من النوم بدرى وينام بدرى!. أنا اتخضيت لما «لقيت» السرير «متوضب» بعد ما قام من النوم!.
قلت لبيشوى: إيه الحكاية؟
ضحك وقال: أحلى حاجة إنك تتعلم النظام وتعيش وسط نظام!. اللى عليك تعمله وحقك تاخده!.
أضاف بيشوى: أنا ماكنتش عايش قبل ما أدخل الجيش!. أسهر غلط وأنام غلط.. وطالما سهرت.. أى ساعات نوم فى النهار لا تزيل الإجهاد!. دلوقت.. اليوم بيبدأ الساعة 5 صباحًا ولغاية 10 مساءً.. يعنى 17 ساعة قدام الواحد!. علشان كده إحنا اتعلمنا معلومات واتدربنا على حاجات فى المدفعية فى الشهر ونص.. تأخذ منا سنة ونصف فى الحياة المدنية!.
كلام بيشوى.. المجند المصرى خريج كلية التجارة.. رفع معنوياتى إلى السماء.. وقلت فى نفسى الحمد لله.. عدوى النظام والالتزام بالإمكان أن تطول الشباب وتؤثر فى الشباب.. خاصة إذا ما تأكدنا واعترفنا أن العيب ليس فى الشباب.. إنما فى الكبار الذين فشلوا فى أن يوفروا مناخ النظام والالتزام فى الحياة المدنية!.
العيب لم يكن فى الشاب بيشوى.. إنما فى مناخ الحياة المدنية الذى يعيش فيه بيشوى وأغلب شبابنا!.
يوم فى مركز تدريب المدفعية بمناسبة انتهاء فترة تدريب أساسية لدفعة مجندين.. دخلوها مدنيين وخرجوا منها مقاتلين قادرين على الالتحاق بوحدات المدفعية المقاتلة...
يوم رفع معنوياتى وأنا أشاهد شبابًا مصريًا رائعًا من كل أرض مصرية.. فى 45 يومًا انتقل من اللانظام إلى كل النظام.. من عدم الوعى إلى كل الوعى.. من إنسان عادى إلى مقاتل فى جيش مصر العظيم!.
شعرت بالاطمئنان والثقة والرضا وأنا أشاهد شبابًا وقد تمكن.. كلٌ فى تخصصه المدفعى.. تمكن وأتقن استخدامه لأسلحة المدفعية.. التى فيها زوايا وحسابات والتى تتطلب كل الدقة وكل التركيز!. الشباب الذى كان مدنيًا قبل 45 يومًا.. هو اليوم مقاتل فى أسلحة القصف المباشر أو مقاتل فى أسلحة القصف غير المباشر أو فى استطلاع المدفعية.. والأسلحة الثلاثة تتطلب مواصفات خاصة لا يقدر عليها إلا مقاتلو المدفعية!.
سرحت بذهنى وأنا أشاهد دفعة مقاتلى المدفعية الجدد وهم يستعرضون مهاراتهم القتالية.. وقلت لنفسى.. سبحان الله.. هى جينات مصرية أصيلة.. جيل يسلمها إلى جيل.. وهذه الروح وهذا الاعتزاز لم يأت من فراغ لأن هذا الشباب المقاتل الذى سيدخل الوحدات القتالية بعد أيام.. هو من صلب رجال لا يعرفون المستحيل...
تذكرت 8 سبتمبر 1968 الذى هو واحد من الأيام العظيمة المشهودة للمدفعية المصرية.. يوم قررت مصر الانتقال من مرحلة الصمود إلى مرحلة الردع!.
المدفعية وحدها القادرة على تنفيذ المهمة!. مرة أخرى ليه؟.
لأن المدفعية هى وحدها القادرة على إنتاج أكبر كمية نيران لأكبر وقت ولكل المسافات!.
مصر تريد إبلاغ رسالة إلى العالم أنها لم ولن تستسلم للأمر الواقع الذى هو لا سِلْم ولا حرب ولا أى حاجة.. والأرض ستضيع!.
المدفعية هى من قامت بإبلاغ الرسالة إلى كل العالم!. بمواجهة 170 كيلومترًا وحتى عمق 20 كيلومترًا داخل سيناء.. قامت 36 كتيبة مدفعية بقصفة نيران ضد جميع أهداف العدو!.
ضرب المدفعية استمر ثلاث ساعات متواصلة.. كبدت العدو خسائر فادحة فى الأفراد والمعدات والأسلحة!.
قصفة المدفعية دمرت الخط الدفاعى الأول للعدو!.
الضربة فرضت السيطرة للمدفعية على الجبهة كلها!.
الذى قامت به المدفعية فى 8 سبتمبر.. رفع الروح المعنوية للشعب والجيش!. أحداث هذا اليوم جعلته وبدون منافس العيد الذى تحتفل به المدفعية كل سنة فى 8 سبتمبر.
الذى قامت به 36 كتيبة مدفعية يوم 8 سبتمبر.. 1968 .. أظنه جزءاً أصيلاً من جينات متوارثة!. جينات المصريين الذين كانوا يعيشون فى القرن الـ 12 وقت الحملة الصليبية التى قادها لويس التاسع سنة 1250 وفيها فوجىء لويس التاسع بل والعالم كله بالمصريين وهم يملكون ويستخدمون أول مدفع فى التاريخ!.
من اخترعوا واستخدموا أول مدفع عرفه العالم.. جيناتهم وصلت القرن العشرين وظهرت يوم 8 سبتمبر 1968.. وكانت الأساس لحدوتة أعظم فى 6 أكتوبر 1973.. ونفس هذه الجينات تعرفت عليها ووجدتها فى شباب مركز تدريب المدفعية.. الذى من صلبها رجالاً سجلوا التاريخ يوم 8 سبتمبر وبعدها 6 أكتوبر!.
بدأ 6 أكتوبر 1973بضربة طيران استمرت 10 دقائق ودمرت 98 فى المائة من أهدافها.. وكانت المدفعية هى المفاجأة الثانية للعدو.. وجاءت ثقيلة وصعبة ومدمرة له وعليه.. وكيف لا تكون.. وخبراء العالم العسكريون.. اعترفوا بأن الحروب لم تشهد من قبل.. تمهيدًا نيرانيًا رهيبًا مثل الذى حدث يوم 6 أكتوبر!.
قصة المدفعية الأعظم تمت بواسطة 2203 قطع مدفعية على مواجهة خط النار بامتداد 170 كيلومترًا. نتكلم عن 1540 مدفعًا للقصف غير المباشر.. أى أن المدفع لا يرى الهدف لأنه على بعد 10 أو 15 أو 20 أو 25 كيلومترًا.. لا يراه.. لكنه بإذنك يارب دَمَّرَه!. عندنا 763 مدفعًا للقصف المباشر.. أى المدفع يرى الهدف ويضرب مباشرة عليه.. وربنا «ما يوريها لحبيب» عندما تبطش دانة مدفع بهدف للعدو!.
التخطيط الرائع لإحدى أهم معارك التاريخ.. أن قصف المدفعية يستمر 53 دقيقة.. وهى الفترة التى تغطى 100 قرار يتم تنفيذها فى هذا التوقيت!.
فى 53 دقيقة جحيم على العدو.. المدفعية أطلقت 121632 دانة وزنها 2712 طنًا!. كثافة نيران المدفعية فى الدقيقة الأولى للقصف 10500 دانة بواقع 175 دانة فى الثانية!.
إن لم تكن مدفعية مصر هى الجحيم.. فما هو الجحيم؟
تحيـــــــــة إلى جيش مصــــــــــر العظيــــم فــــى الأمس واليــــوم والغــــد وكــــل غـــــد بـــــإذن اللــه.