لا شك أن الفكر الإنساني لا يكاد يخرج عن أحد اتجاهين : الصدام أو التوافق، وقد تحدث الساسة والكتاب والمفكرون والفلاسفة كثيرًا عن صدام الحضارات وحوار الحضارات، ما بين عاقل حكيم يحذر من الصدام ويدعو إلي الحوار، وشاذ متطرف يؤجج الصراع ويعمل سرًا أو علنًا علي إحداث الصدام تارة والفوضي المؤدية إلي الصدام تارة أخري. ولو أننا أيقنا باستحالة الإبادة البشرية، وأن سنة الله تعالي في كونه تدفع إلي التعارف لا إلي التحارب، والبناء لا الهدم، لسرنا في الاتجاه الصحيح، وذلك حيث يقول الحق سبحانه : » يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَي وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات : 13)، ويقول سبحانه : » وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ» (الروم :22)، فهو تنوع ثراء لا تنوع صراع ولا إقصاء ولا إبادة، يقول الحق سبحانه : » وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ» (هود : 118-119). ولو أننا بذلنا في سبيل التعاون والبناء نصف ما يُبذل في سبيل إذكاء الفرقة والهدم لتقدمت البشرية تقدمًا مذهلا لصالح الأمم والشعوب جميعًا، وينسحب ذلك علي المناطق الجغرافية المتجاورة، وعلي مستوي الدول، ثم علي مستوي المؤسسات والهيئات والجهات والمصالح، ثم الإدارات المتناظرة والمتماثلة، ولو أننا أنفقنا علي البناء والتنمية والتكافل العالمي نصف ما ينفق علي الحروب لتغير واقع الإنسانية جمعاء.
وعلينا أن ندرك أنه من المستحيل بل ليس من الدين ولا من المنطق ولا من الإنسانية أن يعمل أهل دين علي إبادة أهل دين آخر أو إدخالهم قسرًا في دينهم، أو أن يعمل جنس ما، أو عرق ما، أو دولة ما، أو قبيلة ما، أو مذهب ما، أو أيديولوجية ما، علي إبادة الآخر حسيًا أو معنويًا، فليس شرطًا أن تكون الإبادة حسية، فمحاولات الإبادة المعنوية أو القتل المعنوي لا تقل خطورة عن محاولات القتل الحسي، كما أن محاولات القهر وكسر الإرادات والإخضاع والإذعان والتسليم لا يمكن أن تنتج ولاء ولا فكرًا ولا إبداعًا، ولا تقدمًا، بل تخلق جيلا هشًّا خانِعًا، لا يعتمد عليه وقت الشدائد، وقد عبر عن ذلك بدقة بالغة الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري الملقب بمتنبي القرن العشرين، فقال:
أمِنْ ساعِدٍ رِخــوٍ هَزيـــلٍ وكاهـــلٍ
هزيـل نُريدُ المُلْكَ ثَبْتَ الدَّعائـم!
مِنَ الظلْــمِ أنَّا نَطْلُبُ العزمَ صادقـاً
من الشعبِ منهوك القُوي والعزائم
لنا حاجــــةٌ عنـــدَ السَّــوادِ عظيمــةٌ
سنفقِدُهــا يــــومَ اشتـدادِ الملاحِم
لذا يجب أن نربي أبناءنا وشبابنا وأن ننشئهم علي الحرية المنضبطة، والحوار المنضبط، والقدرة علي الحوار والنقاش وإبداء الرأي، وأن نحسن الاستماع إليهم، نشجع الرؤي الإيجابية وننميها، ونناقش الأفكار الأخري ونضبطها ونهذبها ونعمل علي ردِّ صاحبها إلي الفهم المستنير ردًّا حكيمًا بلا تهكمٍ ولا سخرية أو تهوين من فكرته.
نريد شركاء مبدعين لا أذناب تابعين، فالذنب التابع يضرُّ ولا ينفع كالصديق الأحمق يضرك ولا ينفعك، وقد قالوا : عدو عاقل خير من صديق أحمق، لأن الأحمق يريد أن ينفعك فيضرك.
ولندرك جميعًا أن زمن القهر قد ولي بلا رجعة، ولله در حافظ إبراهيم حين خاطب اللورد »كرومر» بقوله :
زَمـانُ الفَـردِ يا فِرعَـــونُ وَلّــي
وَدالَــــت دَولَــــةُ المُتَجَبِّرينـــا
وَأَصبَحَــتِ الرُعاةُ بِكُلِّ أَرضٍ
عَلـــي حُكــــمِ الرَعِيَّـــةِ نازِلينا
وإذا كان القائد الحكيم السيد الرئيس / عبد الفتاح السيسي يعمل علي ترسيخ أسس الديمقراطية، ويعلي أسس الحوار، ويعمل علي تمكين الشباب، والاستفادة بكل الخبرات والكفاءات الوطنية، ويعمل علي تحقيق أعلي درجات النزاهة والشفافية، فينبغي أن تسير سائر الجهات والمؤسسات علي هذا النهج، حيث لا يسمح ولا ينبغي أن يسمح بوجود فراعين صغار في بعض الجهات أو المصالح أو المؤسسات، لأن هؤلاء الفراعين هم أكبر عائق في سبيل تقدم الأمم والشعوب، وأعظم وقود لتغذية عوامل الاحتقان الاجتماعي والسياسي، إذ أن الناس جميعًا لديهم الاستعداد الكامل لمواجهة التحديات وتحمل الصعاب شريطة العدل والمساواة، وأن نتحمل معًا وألا يكون هناك فراعين صغار يقهرون الناس ويعملون علي سلب إرادتهم علي أي مستوي من المستويات كان. ويجب ألا يستهين القوي بالضعيف وألا يستبد به، فالأيام دول، والدنيا يوم علينا ويوم لنا، ويوم نُساء ويوم نُسرّ، ويقول الحق سبحانه : » قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَي كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (آل عمران : 26)، وليس الملك هنا محصورًا في رئاسة الدول أو شأن الملك العام إنما هو أعم وأشمل، حيث يشمل كل من آتاه الله ملكًا أو سلطة أو استخدمه علي قوم أو فئة أو مجموعة من الناس علي أي مستوي كان، وكان نبينا (صلي الله عليه وسلم) يستنشدُ السيدة عائشة (رضي الله عنها) فيقول : أبياتك، أي هاتي أبياتك أو أنشديني أبياتك، فتنشده قول الشاعر :
ارحم ضعيفك لا يَحُــرْ بــك ضعفــه
يوما فندركـه العواقــــب قـــد نمـــا
جزيك أو يثنــي عليـــك وإن مـــن
أثنـي عليك بما فعلت كمن جزي