مؤمن الهباء
شهادة .. الزاهدون في السلطة
هناك حالة مدهشة ومتكررة في العالم هذه الأيام.. عدد الرؤساء والقادة الذين يستقيلون من مناصبهم أو يتركون مواقعهم طواعية في تزايد مستمر.. يختصرون الطريق عند أول إشارة من الشعب بعدم الرضا عن أدائهم مهما كانت هذه الإشارة صغيرة وغير مؤثرة.. لكن يبدو أن هؤلاء الرؤساء والقادة صار لديهم زهد في السلطة ونفور من المناصب بعد أن خبروها.. وصارت لديهم قناعة بالمغادرة دون مشاكل.
نحن العرب وحدنا في هذا العالم الذين مازلنا نحارب من أجل السلطة.. نتكالب عليها.. نتقاتل ويدمر بعضنا بعضا.. حتي نقضي علي البلاد والعباد من أجل المناصب والمكاسب.. من أجل السلطة.. ذلك المرض اللعين الذي لم يخترعوا له علاجا حتي الآن.
رأينا في ايطاليا خلال الأيام الماضية كيف استقال رئيس الوزراء ماتيو رينزي بعد ساعات من إعلان نتيجة الاستفتاء الذي رفضت فيه الاغلبية مقترحاته لتعديل الدستور.. وهي المقترحات التي أسماها "إصلاحات دستورية".
وما فعله رينزي فعله من قبل ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا السابق الذي استقال في يوليو الماضي عندما وافقت الاغلبية في استفتاء عام علي اقتراح بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.. وكان هو وحزبه من الرافضين لفكرة الانسحاب.
ويوم الاثنين الماضي أعلن رئيس وزراء نيوزيلندا - جون كي - زعيم الحزب الوطني انه سوف يترك منصبه.. وجاء هذا القرار المفاجئ بعد 8 سنوات قضاها في السلطة.. وحدد يوم 12 ديسمبر الجاري لتقديم الاستقالة رسميا.. معتبرا أن قرار الاستقالة من أصعب القرارات التي اضطر لاتخاذها.. لكنه مقتنع بأنه كان من المستحيل أن يظل يعمل لمده رابعة رئيسا للحكومة.. لذلك اختار الوقت الصحيح للمغادرة.
وقد قيل إن جون كي كان فقيرا وصار مليونيرا.. إلا أن الرجل اكتفي علي ما يبدو بما حصل عليه من مال وسلطة.. وصل إلي مرحلة القناعة.. وقال في خطاب الاستقالة أمام البرلمان: "أعتقد أن أحد أسباب فشل الحكومة هو عدم رغبة القادة في الرحيل.. إذا بقيتهم في السلطة لتحطيم أرقام قياسية فأنتم تبقون لأسباب خاطئة.. القادة الجيدون يعرفون متي يجب الرحيل.. وقد حان الوقت بالنسبة لي للقيام بذلك.
وحتي جامبيا - الدولة الصغيرة في غرب أفريقيا - اقتنع رئيسها يحيي جامع أخيرا بأن الأفضل له ولبلاده أن يجري انتخابات حرة نزيهة يعرف فيها موقف الشعب من استمراره في السلطة بعد أن ظل يحكم 22 عاما.. وكان يقول سوف أحكم مائة عام.. وعندما فاز منافسه الذي كان يعمل حارس أمن وحصل علي 45.5% بينما حصل هو علي 37% فقط آثر أن يغادر السلطة بسلام.
وقبل جامبيا أعطت بوركينا فاسو - الشقيقة الافريقية أيضا - درسا في الديمقراطية وفي وعي شعبها منذ سنتين.. عندما أجبر هذا الشعب الرئيس السابق بليز كامباوري علي التنحي وفتح الطريق أمام المواطنين لاختيار رئيسه وحكومته بعد أن مكث في الحكم 27 عاما.. وتسبب في تفاقم مشاكل البطالة والفقر والمرض وسوء التعليم والحروب والإرهاب.. المهم انه في النهاية استجاب لصوت الشعب وترك السلطة بسلام.
ولا يمكن أن ننسي في هذا الملف قرار الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند بعدم الترشح لفترة رئاسية ثانية في الانتخابات الرئاسية التي ستجري في فرنسا العام القادم.. وذلك بعد أن اظهر استطلاع للرأي أن أكثر من 80% لن يصوتوا لصالحه.. وقال أولاند في كلمة من قصر الاليزية: "أنا واع للمخاطر التي يمكن أن تنجم عن خطوة من قبلي لن تلقي التفافا واسعا حولها.. لذلك قررت عدم الترشح للانتخابات الرئاسية"
.وهكذا يتصرف العالم من حولنا.. كأننا أمام حالة عامة ومتكررة من الزهد في السلطة.. خاصة عندما تكون السلطة سببا في الحرب والدم.. هذه لغة العصر.. إلا في عالمنا العربي.. يبدو أن السلطة عندنا سهلة وغير مكلفة.. لذلك يتقاتلون من أجلها.. ويدمرون الأخضر واليابس.. السلطة أو الموت.