الأهرام
عزت السعدنى
حقيبة الفرح الجميل!
كانت أمي تقول لنا كلما جلسنا جلسة فرح وضحك ولعب وهزار وفرفشة: بلاش يا ولاد تفرحوا قوي.. لحسن تتنكدوا!

وقبل الزمان بزمان قال الحكيم المصري العظيم سبت حتب قبل نحو أربعين قرنا من الزمان: الفرح الكبير يعقبه حزن أكبر!..

وهكذا رسمت فلسفة الحياة للإنسان المصري منذ الأزل ألا يفرح كثيرا.. وألا يغرق في الاحساس بالفرح والسعادة. حتي لا يصطدم رأسه في الآخر.. بحائط الأحزان!



ويبدو انني كنت أتكلم بصوت عال أمام تلميذة الدكتورة بنت الشاطئ في البحث والدراسة: خلود السحار الطالبة في الجامعة الأمريكية.. وبدر الدجي كما أسمي كريم عزت الطالب في جامعة الأهرام الكندية.. وهما يتدربان معي علي التحقيق الصحفي بوصفه سيد الأعمال الصحفية وقلبها النابض..

قال كريم عزت: اصل احنا طول عمرنا كده مغروزين في الحزن والسواد.. واحنا أصلا وفصلا شعب الفرح والنكتة والفرفشة!

وقالت خلود السحار: كفاية نكد بقى.. احنا عاوزين نفرح ونفرفش ونخرج من شرنقة الأحزان والأخبار اللي تجيب الكافية!

تلاقت رءوس الاثنين همسا.. ثم قاما وقالا لي في صوت حاسم مانع جامع: احنا اختارنا أن نرفع الابتسامة فوق الوجوه.. وأعلام الفرح فوق الرءوس.. عاوزين نسأل الناس في مصر اللي عطشانة فرح: أيه أخبار الفرح عندكم؟

وازاي نفرح؟ وازاي نصنع في قلوب المصريين فرحا ونعلق فوق بيوتنا عناقيد فل وياسمين ولمبات أعراس وليالي ملاح؟

ذهبا يومين وبعض يوم.. ثم عادا وكل واحد منهما يحمل رصيدا هائلا من هموم الناس وأفراحهم.

قلت لهما معا قبل أن يفتحا حقيبة اللقاءات اليوم هو يوم الأخبار المفرحة.. لقد شبعنا طوال تاريخنا الطويل من الأحزان والهم والغم.. وآخرها عندما انقض علي مصر في عام 1516 السلطان سليم الأول خليفة الدولة العثمانية.. ومزق أستار حضارتنا.. بل أوقف مسيرة مصر التي بدأتها قبل الزمان بزمان ومنحت الدنيا كلها أعظم حضارة في الوجود.. ليحل عهد الظلام بمصر وتنطفيء شعلة الحضارة المصرية ثلاثة قرون بحالها.. حتي جاء أسد النور والتنوير محمد علي باشا ليقول لمصر قومى يا سيدة هذا الكون.. تعالي نعد عهد الأمجاد

عندما جلس علي عرش مصر عام 1805 ليبدأ عصر النور والتنوير من جديد.. عصر محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعلي باشا مبارك لتنبت الأرض المصرية نباتا حسنا يعني ويعمر ويعلم ويقود مصر سياسيا سعد زغلول ومصطفي كامل ومحمد فريد.. وتخرج أرض مصر نباتا حسنا طيبا لكي يحل النور والتنوير ممثلا في طه حسين وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم أعظم شعراء مصر.. وعباس العقاد ومصطفي لطفي المنفلوطي وعبدالله النديم والشيخ علي بوسف صاحب جريدة المؤيد.. ويطل الفن برأسه بظهور عمالقة الغناء والطرب والتمثيل والسينما وكل ما هو مبدع وخلاق ورائع وأصيل:

فنان الشعب سيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب ويوسف وهبي ونجيب الريحاني لتقف مصر من جديد علي قدميها.. وتقول للدنيا كلها: نحن هنا..!

...........

...........

ذهب الاثنان.. ثم عادا يحملان حقيبة الفرح الجميل:

{كتب كريم عزت في تحقيقه عن أفراح الناس: اندهش كل من قابلناه وسألناه عن الأخبار السعيدة في حياته وقال: الخبر السعيد لا يأتي في العمر كله إلا مرات قليلة.. عندما ينجح في دراسته.. وياخد البكالوريوس أو الليسانس بعد طول معاناة وطول سهر.. أو عندما يحصل علي وظيفة بعد أن يطرق ألف باب وباب ويدخل الف امتحان وامتحان.. وفي الآخر يقولون له: مبروك اتفضل الوظيفة الميري لقد نجحت!

{وقالت لي موظفة بإحدي الوزارات رفضت أن تذكر اسمها واسم الوزارة: بيني وبينك لقد نجحت في الامتحان واختاروني أنا وعشرة آخرين.. رغم اننا لم نجاوب في الامتحان كما ينبغي.. هو حد لاقي وظايف الأيام دي!

>وقالت فتاة أخري تقدمت لنفس الامتحان: أنا بصراحة كده حصلت علي الوظيفة من غير واسطة خالص.. وكان خبر حصولي علي الوظيفة هو يوم عيد لي!

قلت لها: وطبعا كان.. هذا أسعد خبر في حياتك؟

قالت: طبعا.. وأسعد خبر لأسرتي كلها!

{وقال لي موظف يتوكأ علي عجاز خشبي.. قارب أن يخرج إلي المعاش: أنا واسطتي يا باشا كانت ربنا.. لقد دعوت الله علي أيامي زمان وصليت ركعتين في السيدة زينب وقبلهما في الامام الحسين ودخلت امتحان الوظيفة وقالولي بعد الامتحان إن أنا طلعت الأول.. والحمد لله كان خبر حصولي علي الوظيفة أسعد خبر لعائلتي كلها وللكفر كله!

أسأله: ايه هو الكفر ده؟

قال: ده اسم البلد بتاعتنا.. كفر بخاتى.. زي كفر صقر وكفر الشيخ..

>لكن عمدة في الريف الجواني وهو في نفس الوقت والد زميل لي في الكلية قال لي وهو يزور سيدنا الحسين كعادته عندما يحضر إلي القاهرة: أجمل خبر في حياتك يابني.هما حاجتين اتنين خليهم حلقة في ودنك: أن يمتعك الله بالصحة والستر!

وعندما سألته عن الستر قال: يعني ما يجيش عليك يوم يا بني تمد فيه ايدك لحد.. يعني اللحاف علي قد الغطاء.. يعني تبات شبعان ودفيان ومتغطي في أمان الله وستره.. ده يساوي كل كنوز الأرض جميعا.. بكره تكبر وتعرف وتقول الحاج متولي قاللي!

................

................

لكن الشطورة خلود السحار جابتها علي بلاطة ـ كما يقولون.. عندما كتبت تقول:

{أول من قابلتهم في يومي هذا سكان زقاق اسمه حوش بردق فى دهاليز السيدة زينب قادتني إليه زميلة لي في الدراسة تسكن هناك.. قالوا لي وهم يمصمصون بشفاههم: وهو فين الفرح ده.. وفين سكته عشان نروحها ونفرح.. وسندويتش الفول اللي كان بجنيه ونصف بقي بأربعة جنيه وكيلو الطماطم بقي بثمانية جنيه وإن لقيته وكيلو الخيار بخمسة جنيه والملوخية بخمستاشر.. والبطاطس بخمسة جنيه وطبق الكشري هو راخر بقى بخمسة جنيه.. واشمعني هو بقى هوا يعنى.. والميكروباص زود الأجرة للضعف.. وبلاش نتكلم عن اللحمة وصل فيها الكيلو لرقم خيالي مائة جنيه عند الجزار وستين جنيه بالدهن في الجمعية وبالضرب!

موش بس كده الدواء أصابه الجنون.. كل حاجة في الاجزاخانات تضاعف سعرها.. وألبان الأطفال في الطراوة!

أسألها: يعني ايه في الطراوة؟

قالت: ما انتيش عارفة يعني ايه في الطراوة.. يعني في السما السابعة في أسعارها..

ـ ليه.. أنا أسأل؟

ـ قالوا: عشان سعادة الباشا الدولار اللي بنستورد بيه كل حاجة واللي ربطنا الجنيه الغلبان بتاعنا بيه.. فراح يمرمط بيه وبينا الأرض!

وصرخت سيدة تحمل طفلا رضيعا في حضنها إلي جواري: ويا ست الحسن والجمال.. أسأليهم كده علي ألبان الأطفال راحت فين وجت منين وطلع سعرها السما السابعة وموش لاقيينها.. وأطفالنا نسقيهم ايه بالذمة مية طرشي!

وفي الميكروباص الذي ركبته رفعوا الأجرة للضعف.. سألت: عشان ايه؟.. قالوا: عشان البنزين ارتفع سعره هو الآخر!

...................

...................



ولأن الولد والبنت.. أقصد كريم وخلود قد فاض بهما وتعبا كثيرا بحثا عن الأخبار المفرحة في حياتنا.. فأحاطت بهما أخبار تسد النفس عن الغلاء وما صنعه بنا الدولار اللعين.. فقد جمعتهما أمامي كتلميذين صغيرين في المدرسة الأميرية الابتدائية في القناطر الخيرية زمان وقلت لهما:

نمرة واحد: نحن نعيش أياما صعبة علي كل الأصعدة العالمية والعربية والمصرية.. نحن نعيش وسط غابة مليانة ذئاب وتعالب وسحالي.. ومجتمع لا يرحم.. وعلينا أن نتصدى لكل المؤامرات التي تريد أن تمزق شمل العالم العربي.. لتنجو مصر بفضل رجالها وسياستها وتاريخها العظيم وقيادتها الواعية

وها نحن نعبر عنق الزجاجة بخطوات ثابتة.. وها هى مصر تولد من جديد.. وها هم شبابنا الذين كانوا خلف الأسوار.. يخرجون فرادي وجماعات إلي نور الحرية..

شوية صبر يا عالم.. وكل شىء سوف يعود مضيئا براقا..

وها نحن نبني مصر بالمشروعات العملاقة في قناة السويس.. وفي واحة الفرافرة وفي العوينات وفي جنوب سيناء ومياه النيل تعبر الآن قناة السويس لتروي وتسقي وتزرع وتخلق مجتمعا عمرانيا جديدا.. وها هن بنات مصر يفزن ببطولة العالم فى الاسكواش في باريس وبكره ياولاد.. أحلي من النهارده.. وتذكروا قول الرئيس السيسي مرارا وتكرارا: لن أخذلكم أبدا!{

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف