المصريون
جمال سلطان
جريمة الهرم .. الأزمة سياسية وليست أمنية
بدون أي مقدمات ، وبدون أي تحفظات ، وبدون أي ملاحظات ، ندين العملية الإرهابية التي جرت صباح اليوم الجمعة في شارع الهرم بالجيزة وراح ضحيتها ستة من رجال الشرطة وأصيب ثلاثة آخرون ، هذه جريمة مدانة أيا كانت الدوافع وأيا كانت التفسيرات ، فهذا العنف الأعمى لا يمكن الدفاع عنه أو تبريره ، وينبغي على الجميع إدانته ، قولا واحدا ، إذا كنا نبحث عن وطن ومصالحه العليا ، بعيدا عن أي خلاف سياسي ، ولا شك أن ما حملته لنا الأخبار صباح اليوم هو إضافة لمزيد من الأحزان التي أثقلت قلب الوطن وقلوبنا من الاستخفاف بالأرواح وبالدم وبالآدمية ، من أكثر من طرف ، والضحايا دائما أبناء هذا الوطن وشبابه ، أيا كان موقعهم ، وأغلبهم عادة لا يكونون طرفا في أي مشكلة بالأساس . أعلنت حركة تدعى "حسم" بعد عصر اليوم مسئوليتها عن تلك الجريمة ، وبررتها في رسالة عبر صفحات التواصل الاجتماعي بأنها انتقام لأشخاص قالوا أن الشرطة قتلتهم أو قامت بتصفيتهم ، والحقيقة أني لم أكن متلهفا على معرفة الجهة الفاعلة ، لأنه لم يعد هناك قيمة كبيرة للأسماء واللافتات ، طالما أن العنف أصبح ثقافة منتشرة بين قطاعات من الشباب من الواضح أنها تتزايد ، وبغض النظر عن كون تلك الحركة قائمة بالفعل أم أنها وهمية وأن هناك مجموعات متفرقة ممن يسمون "الذئاب المنفردة" تقوم بتلك العمليات ، إلا أن المحصلة واحدة ، وهي أن الوطن أصبح بمواجهة موجة من العنف السياسي المتنامي ، وأجواء من الإرهاب والخوف تتزايد مع الوقت وتكتسب أرضيات جديدة ، وهذا هو المقلق وهو المخيف فعلا . الخبرة التي خرجنا بها ، باحثين ودارسين للحركات الإسلامية أو خبراء أمنيين أو محللين سياسيين ، من تجربة مصر في التسعينات الماضية ، أن العنف السياسي ليس حالة أمنية محض ، ليست قضية تختص بها المؤسسة الأمنية وأذرعها ، لسنا أمام تشكيل عصابي لسرقة السيارات مثلا أو ترويج المخدرات ، نحن أمام قضية مختلفة تماما ، أمام قناعات فكرية وسياسية لها جانب غيبي يستحيل أن تكسره بالإجراء الأمني أو قسوة القوانين ، مستحيل ، إلا إذا نجحت في تفكيك المنظومة الفكرية التي تتأسس عليها تلك المنظمات الخطيرة ، وهذا ما انتبهت له الداخلية متأخرة في تجربة حبيب العادلي مع الجماعة الإسلامية ، فلم تنته موجة العنف إلا بعد تفكيك الخطاب العقائدي الذي تأسست عليه رؤية العنف ، وصدرت كتب المراجعات ، فانتهى الأمر ، وبدأ أبناء ذلك التيار يبحثون عن العمل السياسي السلمي أو العمل الأهلي الديني أو الخيري ، وطويت الصفحة الكئيبة ، التي لم تفلح في طيها الدولة بأسلوب القبضة الحديدية ، ورغم تصعيدها لمستويات العنف والتصفيات الجسدية والضرب في سويداء القلب كما كان يردد وزير الداخلية الأسبق زكي بدر . الأمم تستفيد من تجاربها لحماية حاضرها والتخطيط لمستقبلها ، والمؤسف أن سوق المزايدات الرخيصة والنفاقية المتفشي هذه الأيام في مصر يضر بالوطن ويحول بينه وبين الاستفادة من الخبرات والتجارب والتخطيط الجيد ووضع السياسات الجادة والتي تحمي الحاضر والمستقبل ، الدعوات لمعالجة الأزمة بتصعيد التصفية والقمع وإعدام المعارضين وتشديد القوانين لا تفزع الإرهابي ، ولكنها تضر المواطن العادي وتخنقه ، كما أنها ـ وهذا هو الأخطر ـ تصنع البيئة النفسية والسياسية والفكرية التي تمثل مستنقعا تتكاثر فيه أفكار التطرف الديني والسياسي والغضب والكراهية والثأر والعنف لدى قطاعات جديدة من الشباب ، وبالتالي تسهل على جماعات العنف عمليات استقطاب أعضاء جدد ، فكلما نجحت الدولة في سحق مجموعة ولدت لك مجموعة أخرى ، وهكذا بأفق مفتوح على مسلسل لا ينتهي من الدم والخراب . ما تعانيه مصر الآن في جوهره أزمة سياسية وليست أزمة أمنية ، وهناك عقليات ضيقة الأفق بصورة مذهلة لا ترى تلك البديهيات بالوضوح الكافي ، وبدلا من تخفيف الاحتقان ومعالجة مناخ الكراهية والغضب وفتح مساحات من الحرية تنفس عن المجتمع وتمنع التشدد وتطبيع الحياة السياسية ، يدهشك أن هناك من يفتش على المزيد من الإجراءات القمعية لمحاصرة لقتل النشاط السياسي السلمي وضرب العمل الأهلي ومنظمات المجتمع المدني ، والتضييق على الأحزاب ، وخنق الإعلام ، والتجاهل التام لأهمية اتخاذ خطوات جادة لصناعة جسور من التفاهم وتطبيع الأجواء بين النظام السياسي والقوى السياسية الحية في المجتمع ، رغم أن العالم كله يرى ويوقن أن مصر ـ الدولة ـ لا تملك في تلك المرحلة قدرات تسمح لها بترف العناد والمكابرة أمام التحديات الجسيمة أو الرهان على الوقت.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف