المعنى الحقيقى للتقدم هو أن نختار مسارًا مختلفًا عما قبله، وليس من الصواب أن نقارن الحاضر بما كان فى الماضى، ولكن المنطقى أن نقارن الحاضر بما أنجزه غيرنا فى اللحظة الراهنة، ولم نستطع نحن تحقيق ما تحقق لهم.. ويبقى السؤال الذى يطل علينا باستمرار من نوافذ الجمود- لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ هذه الأفكار وغيرها تطل فى مقدمة كتاب «شفرة التقدم .. رؤية إدارية» للدكتور محمد كمال استشارى إدارة وتنمية الموارد البشرية الذى استعرض خلال صفحات كتابه (464 صفحة) بفكر علمى ونقدى قضية التقدم وأسرارها.. يركز المؤلف والصديق دكتور محمد كمال على حتمية أن تكون هناك ثقافة تؤهل المجتمع للتقدم من خلال ما تطرحه من قيم ايجابية لا تصطدم بالعصر ولا تقطع صلتها مع المعقول والمقبول من تراثنا.. وبناء على تلك التصورات يحسم الكتاب من البداية قضية مهمه تقول إن «ما لا يقاس لا يدار» وحتى يحدث التقدم فلا بد من تحديد أصل التخلف ومسبباته.. وكثيرا ما شدنا النقاش حول بعض أطروحات هذا العمل القيم خاصة الحماس العلمى لدى المؤلف الذى يقول إن التكنولوجيا هى أساس التقدم للدولة والمنظمة والفرد ويقابل رؤية وقناعة المؤلف نوع من التبرم من قبل أصحاب الايمان بما للتاريخ والثقافة من تأثير بالغ على فكرة التقدم وأنا من المنتمين لهذا التيار.. وعما إذا كانت هناك شفرة واحدة للتقدم تأخذ بها كل المجتمعات يجيب المؤلف بالنفى ويضرب أمثلة بأن شفرة التقدم الصينية كانت «طفلًا واحدًا لكل أسرة طوال ثلاثين عامًا، وشفرة التقدم الأوروبية جعلت السوق هو قلب الاقتصاد، بينما كانت شفرة التقدم اليابانية هى الالتزام بالعمل الجماعى والانتماء الأسرى لمؤسسات الأعمال.. وعن شفرة التقدم الاسرائيلية يحكى المؤلف خلاصة نقاش ساخن مع شاب اسرائيلى فى قرية نويبع قبل أكثر من عشرين عاما حين سأل الشاب.. ما هى شفرة التقدم فى اسرائيل؟ وجاءت الإجابة محددة جدا وهى السرعة فى الإنجاز المصحوب بالدقة، تقديس وقت العمل، وفرصة واحدة متاحة لكل فرد لا تتكرر إذا أخطأ . ويذكر المؤلف فى كتابه أن الشاب الاسرائيلى سأله عن مضمون التجربة الإدارية التى تحرك التنمية فى مصر؟ ويقول الدكتور محمد كمال «رغم تخصصى فى مجال الإدارة فإننى لم أستطع أن أبلور فى عقلى أبعادا محددة للتجربة الإدارية، وأسعفنى ذهنى وقلت للشاب الإسرائيلى- ارتفاع الانتاجية هو الحافز الأساسى للتجربة الإدارية- وهنا كان رد الشاب الاسرائيلى أن اجابتى تفتقد المصداقية لأن اجمالى الناتج القومى الاسرائيلى يقترب من اجمالى الناتج القومى المصرى رغم أن اجمالى سكان إسرئيل خمسة ملايين وعدد سكان مصر يزيد على ستين مليونا (منتصف التسعينات).. واذا كانت مصر الآن بصدد البحث عن ذاتها التنموية والإدارية والثقافية وأن هناك اكثر من تسعين مليونا يقفون أمام سؤال وجودى حقيقى- نحن إلى أين.. ما الذى يحمله لنا المستقبل وما الذى تسلحنا به للانتقال الى حيث يكون المستقبل؟ الحقيقة أن الاستاذ الدكتور محمد كمال بكل خبراته الادارية والتنموية يقول فى الفصل الثالث من كتابه «رأس المال البشرى هو القيمة الاقتصادية للمعارف والمهارات التى يمتلكها الأفراد، وإذا كانت المعرفة فى عقول الأفراد وليس خارجها فلا يمكن الاستفادة منها إلا من خلال الأفراد أنفسهم» وأضيف لكلام صديقنا المؤلف أن المعرفة لكى تتحول الى طاقة انتاج وتطور لابد أن تنطلق من منظومة قيم حضارية وانسانية تتسق وتتآلف مع المجرى الكبير لعصرنا وعلوم زماننا- وعند هذه النقطة يعيدنى المؤلف لبداية كتابه حين يقول برؤية علمية بليغة إن مشكلة المجتمعات التى يضربها التخلف هى أنها تحمل وعيا ساذجا يجعلها قادرة على إدراك مشكلاتها ولكن سذاجة الوعى تدفعها للاعتقاد أن حلول المشاكل المعاصرة يمكن استدعاؤها من جحور الماضى التليد، واعتقد- والكلام لكاتب السطور- أن تلك هى مشكلة المجتمعات العربية المعاصرة التى استغرقها البحث فى دهاليز الماضى عن دواء لأوجاع حاضرها وعن قارب نجاة يحملها للمستقبل، والنتيجة أنها انعزلت عن زمانها وتاهت منها الطرق المؤدية للمستقبل.