اليوم يحتفل المسلمون فى مشارق الأرض ومغاربها بذكرى مولد النبى محمد صلى الله عليه وسلم. ومع ذكرى مولده المبارك يطيب الحديث عنه لنتنسم معها عبيرا وأزهارا زكية عطرة لسيد الأولين والآخرين الذى فاق جميع الأنبياء والمرسلين. إنه الرسول الذى يتوج بوصفه أحكم حكماء الأرض وأعقل عقلائهم. ملك حكمة النصح والتوجيه التى عالج بها النفوس الشاردة بالرأفة والرحمة، فحكمة الدعوة والارشاد تقتضى أن تقرب الشارد ولا تعاقبه، وتدنيه إلى الحق ولا تهلكه، فالمرشد المربى الحكيم يسوس النفوس ويوجهها إلى جادة الحق من غير عنف، إذ إن العنف ليس علاجا ولكنه قمع فيه غلظة وقد يؤدى إلى الاصرار على الشر والامتناع عن الخروج من دائرته. والشفقة والرحمة هى التى تجذب الناس إلى الداعى وليست القسوة. حكمة فريدة ملكها محمد خير الأنام، وفطنة سديدة تميز بها، عجزت عنها سادات قريش وعقلاؤها. وعبر هذه الحكمة استطاع أن يطفئ نار حروب كادت تشتعل بين الفرقاء.
كان صلى الله عليه وسلم يستعين بالكتمان فى قضاء الحاجة تطبيقا لحكمة (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)، فكان إذا أراد أن يدعو قبيلة من قبائل الحجاج خرج اليهم فى ظلام الليل حتى لا يحول بينه وبينهم أحد من أهل مكة المشركين ممن كانوا يصدون عن سبيل الله. وأحد روافد حكمته صلى الله عليه وسلم الحيطة والحذر وأخذه بالأسباب الظاهرة فى كل أمر يقدم عليه. كان دوما يتبنى خطة حكيمة عاقلة بعيدا عن العشوائية تعليما لنا بأن الأخذ بالأسباب والحذر والحيطة والعمل بها هو أساس الحكمة. ولفرط حكمته كان يستشير أصحاب الرأى والمشورة فى كل أمر جلل، فالاستشارة تعنى اضافة عقل إلى عقلك. وتجلت حكمته أيضا فى استخدام سلاح الحزم فى موطنه المناسب، فالرجل الذى لا يحترز مما أصيب به من الآخر ليس بحكيم. كان عليه الصلاة والسلام ينظر إلى الأمام، وإلى ما ستؤدى إليه الأمور، ولا تهمه كلمات تثار أو تثير فهو يريد سلاما ينشر فيه دعوته ولا يريد حربا تستنزف جهده وجهد أصحابه.
إنه قائد دعوة. والدعوات الصادقة لا تقاد بالعواطف الثائرة، بل بالحكمة البالغة والعقول العامرة. ومن كلماته الحكيمة قوله: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب)، وقوله: (خير الأمور أوساطها)، وقوله: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وقوله: (رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت عن سوء فسلم)، وقوله:(تهادوا تحابوا). إنه الرسول الذى ما نطق إلا بالحكمة، وما عمل إلا بها.
إنه محمد الصادق الأمين الذى اختاره الله رسولا للعالمين، فكان أن حفظه فى نسبه وفى ولادته ونشأته وفى رعايته وبعثته، وحفظه فى هجرته وأداء رسالته، وحفظه فى حياته كلها، وفى مماته. حفظ رسالته وسيرته وكل شىء من أمره. وهو ما يستدعى قول الله عز وجل: (وأصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم) الطور الآية 48، وجرى هذا فى كل شأن من شئونه، فلا تغيب عن أحد هذه الدلالة فى جميع أمره من دنياه إلى آخرته).
إنه سيدنا محمد النبى الأعظم صلى الله عليه وسلم الذى خرج بدعوته وجهاده من الظلمات إلى النور، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، وذاق لأول مرة حلاوة الايمان وعرف قيمة الإنسان. واليوم وفى ذكرى يوم مولده نستدعيه نبراسا للحكمة وينبوعا للصدق والأمانة والعدل. صلوات الله وسلامه على محمد القدوة خاتم الأنبياء والمرسلين صمام الرحمة، الخلوق الكريم الحليم، فسلام منا على صاحب الرؤية الرشيدة ومعلم الحكمة الأواب المتبتل المطيع لرب العالمين.