الأهرام
ليلى تكلا
المعرفة التفكير وإعمال العقل (2)
يكثر الحديث الذى يطالب بإصلاح الخطاب الدينى وإصلاح الخطاب الثقافي.. والخطاب العلمى وغيرها. أقوال تتكرر رغم أنها تتجاهل الترتيب المنطقى للأمور. الخطاب يأتى تعبيراً عن فكر معين وبالتالى فإن تصحيح الخطاب بدايته تنقية ذلك الفكر والعمل على تصحيح مسيرته التى تبدأ بالمعلومات والبيانات مروراً بالفهم والشعور وصولاً للفكر والقرار. صحيح أن الخطاب أحد مصادر المعرفة يؤثر فى الفكر ولكن كى تكون المعرفة التى يقدمها صحيحة وسوية لابد أن تكون تعبيراً عن فكر سوي. الخطاب لا يمكن أن يكون سوياً إذا ظل الفكر عقيماً خاطئاً. علينا إذن الاهتمام بقضية الفكر والتفكير حتى يصحح الخطاب ويكون تأثيره محققاً لما فيه مصلحة الشعب والوطن.

الفكر هو الذى يستثمر المعرفة.هو الذى يهذب المشاعر فيدعو إلى الخير والتسامح والعمل والبناء أو إلى الثأر والتخريب والعدوان. يصبح الإنسان ما يفكر. كذلك المجتمعات يتحدد مستواها حسب ما تغلغل فيها من أفكار. المجتمع الذى يشعر بالغضب على نظامه ولديه فكر خاطئ عن أسلوب التعبير عن ذلك الغضب،يتجه إلى التعدى والإرهاب. هذه المشاعر المدمرة يسيطر عليها فكر منحرف أو خاطئ.

ديكارت فكر أى أعمل العقل. استخدم الفكر ووصل إلى العلاقة بين الفكر والوجود فقدم للعالم مقولته الرائعة «أنا أفكر فأنا موجود» هذه المقولة تحدد العلاقة بين الفكر والوجود، وأن الفكر هو الوجود ودليل الوجود هو الفكر ونرى أنها بالإضافة لذلك تعنى أيضاً أن هناك ارتباطا بين مستوى الفكر ومستوى الوجود، وأن مستوى الحياة يحدده مستوى الفكر أى أنه على قدر ارتقاء ونبل الفكر يكون الوجود،. بالفكر وصل ديكارت إلى نظرية دوران الأرض وسجلها فى كتابه «العالم» ولكن لم يطبع الكتاب خوفاً من أن يناله ما حدث لغيره من الفلاسفة والعلماء مثل جاليليو وبرونو فانتى كمبايلا الذين قدموا أفكارا ثورية مماثلة. ويسجل التاريخ أمثلة كثيرة تؤكد أن عدم التعبير عن الفكر بسبب الخوف، يشكل خسارة كبيرة للعلم وللعالم.. ويؤكد أيضاً أهمية ثقافة إعمال العقل التى تساعد على تقييم ما يصله من معلومات للفرز بين الصحيح والباطل مما يعنى أهمية تنمية الفكر وتحديثه.. فهل هذا ممكن؟

ثار جدل حول هذا التساؤل بين مدرسة ترى أن الذكاء، الذى هو أساس التفكير، نتاج الوراثة فقط ولا يمكن تنميته، وأخرى ترى أن الذكاء هو نتاج تفاعل الفرد مع بيئته وليس الوراثة ثم ظهر توجه يوفق بينهما يرى أن لكل فرد ميراثا من الذكاء ولكن هذا لا يعنى أن يبقى إلى نهاية العمر فى حدوده بل يمكن استثماره والوصول به إلى أقصى حدود ممكنة.

قدم «فيجوتسكي» مفهوم «حيز النمو الممكن» الذى يوضح أثر البيئة على التفكير وهو الفرق بين ما لدى الفرد من إمكانات وما يحققه فعلاً ويعنى أن الإنسان لديه إمكانات قابلة للنمو إذا ما توافرت له بيئة ثرية جيدة.. وتعليم يشجع إعمال العقل.فالتفكير ليس مثل لون العين أو الطول لا يمكن تعديله (وإن كان هذا أيضاً أصبح ممكناً) بل هو مهارة يمكن تنميتها.

تأكدت مصداقية هذا التوجه التفاعلى بعد التقدم التكنولوجى الذى سهل دراسة المخ دراسة أكثر شمولية أظهرت أن المخ قابل للتعديل والنمو وهو ما يسمى «بلاستيكية المخ» وكان نتيجة لإكتشاف «بلاستيكية المخ» ظهـور مفهـوم جديد هـو «الإثراء» ويعنى إيجاد بيئة تنشط المخ وتتيح للإنسان الفرص لتنمية طاقاته وإمكاناته الكامنة إلى حدها الأقصي.

زاد الاهتمام بدراسة التفكير فى الثمانينيات. أصبح علماً يتم تدريسه وضعت له البرامج المناسبة لتطبيقه فى المدارس والجامعات. يشير علماء المستقبل إلى أن معارف البشرية تتضاعف كل ثلاث إلى خمس سنوات بمعنى أن محتوى المناهج الدراسية يصبح قاصراً من سنة إلى أخري، ولا يمكن أن تشمل المناهج كل المعلومات والمعرفة مما يقتضى تنمية الفكر وإعمال العقل من أجل اللحاق بها ويرون أن ما يطلق عليه الراءات الثلاث فى التعليم وهى القراءة والكتابة والحساب reading, Writing, arithmetic لابد أن يضاف إليها «مهارة التفكير» وهى المهارة التى تدفع بالذكاء إلى العمل لما لها من أهمية فى هذا العصر ليس فى التعليم والتربية والتدريب فحسب بل لضرورتها فى سياق الأسرة والصداقة والمجتمع الذى يعيش فيه الفرد وفى تكوين وبناء شخصيته ومعتقداته وقيمه. أصبح تعليم التفكير هدفاً عاماً وحقاً لكل إنسان بغض النظر عن مستواه العقلى أو الاجتماعى أو الاقتصادى فلكل فرد قدرة على أن ينمى قواه العقلية لدرجة ما. أكد «دى بونو» أن مهارة التفكير يمكن تعلمها مثل أى مهارة السباحة ـ قيادة السيارات ـ التنس.. وأن زيادة التدريب على هذه المهارة يساعد على اتقانها.

استقر الفكر أن مهارات التفكير لا تنمو بالنضج والتطور الطبيعى وحده ولا تكتسب من خلال تراكم المعلومات والمعرفة بل يتطلب تعلما منتظما وتمرينا عمليا متتابعا لها. فمهارة التفكير الصحيح تتضمن التأكد من صحة المعلومات وتحديد ماذا سنفعل، متى نفعله، وكيف، وما الأدوات اللازمة والنتائج المتوقعة والعوامل التى يجب أخذها فى الاعتبار، ولقضية الفكر كتابات ودراسات تستحق اهتمام القائمين على التعليم والتثقيف والإعلام نحن على استعداد لتوفيرها لمن يهمه الأمر... وقد أفادتنا فى البحث كثيراً.

إذا كان التفكير بهذه الأهمية وعاملا أساسيا فى تقدم المجتمع ورفاهة الإنسان وتوازنه، ولما كان ضرورة من ضرورات التنمية، وبما أنه يأتى نتيجة لعوامل متعددة من أبرزها وأهمها التعليم أسلوبه ومضمونه وفحواه، وبعد أن ثبت أنه يمكن أن يدّرس ويدرس وقابل للنمو والزيادة والانطلاق، وأن هناك كتبا وأبحاثا حول التفكير أهميته وماهيته وتكوينه، يصبح السؤال: أين التعليم لدينا من كل هذا؟ هل أسلوبه ومناهجه تقود إلى تنمية التفكير وإعمال العقل؟ وهل برامج تدريب هيئات التدريس تتضمن مادة التفكير ـ أو حتى إشارة ـ للتعريف بالتفكير مسيرته وتنميته؟ والحديث مستمر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف