جمال سلطان
لماذا غضب الأقباط على إعلام السلطة ؟
استحوذت وقائع الاعتداء والتحرش بعدد من الإعلاميين الموالين للسلطة أمس أمام الكاتدرائية على أحاديث الرأي العام ومواقع التواصل الاجتماعي وحوارات المثقفين وحتى العوام ، وكذلك أخذت حيزا واضحا من مساحة الفضائيات التي تناولت الجريمة الإرهابية أمس ، ما بين شامت في ما حدث للإعلاميين ، وهؤلاء كانوا أكثرية واضحة ، وبين متحفظ على ما جرى ، وقلة قليلة حذرت من خطورة التساهل مع الاعتداء على الإعلامي وهو يقوم بدوره أيا كان الخلاف السياسي معه ، ولكن يبقى السؤال الأهم في ذلك هو : لماذا كانت هذه الغضبة الكبيرة من المواطنين الأقباط ضد إعلام السلطة ، ولماذا حاولوا الفتك بهم لولا تدخل الشرطة وبعض الحرس الشخصي لهم . لا أعتقد أن الزملاء لميس الحديدي أو أحمد موسى أو غيرهم هم ممن يؤخذ عليهم الإساءة للأقباط بحيث يمكن تصور أن هناك غضبا شخصيا من ممارساتهم ضد الأقباط ومصالحهم وهمومهم ، بل كلاهما ممن يتعاملون بحذر شديد في هذا الموضوع وبمجاملات مشروعة أيضا في الحديث عن شئونهم ، ولذلك من المستبعد تماما أن يكون الغضب الذي صبه الأقباط عليهما كان لأسباب شخصية ، وإنما هي لأسباب عامة ، غضب أوسع بكثير من الإعلام نفسه ، وإن شئنا الصراحة والدقة هو غضب ضد السلطة نفسها ، والإعلام الموالي لها هو مجرد رمز للسلطة ، تماما مثلما حدث من بعض الغاضبين عندما اشتبكوا مع بعض رجال الشرطة في المنطقة ، رغم أنهم موجودون لحمايتهم وحفظ الأمن في محيط الأحداث ، فالغضب لم يكن ضد رجل الأمن نفسه ، وإنما ضد السلطة ورمزيتها في الحقيقة . غضب الأقباط الذي جرى أمس وتفجر في وجه إعلام السلطة كانت له رمزية سياسية مهمة ، فهو لم يكن غضبا طائفيا ، وإنما غضب سياسي وطني مشروع ، شعور مصري بالظلم والقهر والاستهتار وتقصير السلطة نفسها في القيام بدورها الأساس في حماية المواطن وتأمين الوطن بما فيه دور العبادة ، خاصة في أيام الأعياد والاحتفالات المهمة ، والهتافات التي نقلت من مكان الواقعة كانت هتافات سياسية في أغلبها ، وموجهة ضد السلطة ورموزها وليس ضد أي من أبناء الوطن حتى المختلفين سياسيا مع الكنيسة ، وهذا ـ بدون شك ـ تطور إيجابي في وعي الأقباط بقضية الوطن ، فمصر لا تعرف فتنة طائفية بمفهومها الطبيعي والشائع والذي عرفه العالم في مناطق عدة ، رغم التحرشات الصغيرة التي تقع هنا أو هناك بين مسلمين وأقباط شبيهة بما يحدث بين بعض العائلات المسلمة وبعضها البعض أو بين بعض القرى لأمور حماسية يختلط فيها الإشاعات بالحقائق ، وعادة مثل تلك الوقائع يتم تفكيكها بسهولة ومعظمها على خلافات مباني وتحويلها إلى دور عبادة ، والأجيال الجديدة من الأقباط أصبحت أكثر وعيا بقضايا الوطن والشراكة السياسية ، وكثير منهم كانوا شركاء في ثورة يناير وفي الحراك السياسي العام ، وهذا من الأسباب التي أزعجت الكنيسة نفسها ، لأنه يقلص من ولايتها السياسية على المواطنين الأقباط ويوسع تمردهم على الاحتواء . الذاكرة السياسية القبطية كانت حاضرة في غضب الشباب على أبواب الكاتدرائية أمس بدون أدنى شك ، فجريمة تفجير كنيسة القديسين التي جرت في 2011 وراح ضحيتها أكثر من عشرين مواطنا بخلاف مائة مصاب ما زالت تحقيقاتها معلقة ، خمس سنوات ولم يتم ضبط القتلة ، ولم يتم تقديم المجرمين للعدالة ، بل وصل الحال إلى أن يقوم محامون أقباط برفع دعاوى أمام القضاء الإداري لإلزام الداخلية بتقديم تحرياتها الأمنية عن الواقعة لجهات التحقيق ، وقد حكمت المحكمة بإلزام وزارة الداخلية بتقديم التحريات الأمنية عن الواقعة للنيابة ، وهو حكم لا سابق له في مصر في غرابته ، كما أن هناك غضبا يتجدد سنويا من الأحداث التي وقعت أمام مبنى التليفزيون "ماسبيرو" أيضا وراح ضحيتها أكثر من عشرين مواطنا من الأقباط أثناء تظاهرة لهم هناك . على السلطة أن تقرأ رسالة الغضب القبطي التي عصفت بإعلامييها على وجهها الصحيح ، فهي رسالة غضب موجهة للسلطة ذاتها ، وينبغي أن تتعامل الدولة معها بعقلانية وشفافية أيضا ، ولا داعي لقنابل الدخان التي تطلق بكثافة من أمس إعلاميا عن ضرورة المحاكمات العسكرية وقضايا الإرهاب وتعديل القوانين ، البلد لا ينقصها محاكمات عسكرية ولا ينقصها محاكم للإرهاب ولا ينقصها قوانين كافية ورادعة للإرهاب ، فكل ذلك موجود فعليا ويتم تفعيله يوميا مع عشرات الأحداث والقضايا ، الأزمة هي ـ حصريا ـ فيما قبل المحاكمات وما قبل القوانين ، في كفاءة الأداء الأمني ومنع الجرائم قبل وقوعها وتصحيح الأخطاء ، إضافة إلى العمل السياسي الناضج والمسئول لتفكيك مناخ الغضب والكراهية في الوطن ، وإتاحة المساحات الكافية للمجتمع وقواه المدنية والسياسية للتحرك واستيعاب طاقات أجياله الجديدة ، فقد أثبتت تجربة السنوات الأربع الماضية أن فكرة القبضة الحديدية وتحزيم المجتمع بقوانين الخوف وتجفيف منابع العمل الأهلي لم تكن مثمرة ولا صحيحة ، بل لم تثمر إلا في توليد المزيد من العنف والإرهاب ومنحه المناخات المعنوية والسياسية الملائمة لتجدده ونمو خلاياه الوحشية .