طوفان الأحزان يجتاح نفوس المصريين، وكأنه لا تكفيهم صدمات الصعق الكهربائي في أفران غلاء الأسعار، فقد عادت حوادث الإرهاب من جديد، تضرب في قلب القاهرة وعلي أطرافها، ومن عملية الهرم التي راح ضحيتها ستة من شهداء الشرطة، وإلي التفجير المفجع في »الكنيسة البطرسية» المجاورة للكاتدرائية المرقسية الكبري بالعباسية، وحيث يفترض أن الإجراءات الأمنية تكون علي أشدها، برغم ذلك جري الاختراق الإرهابي، ودخلت عشرات الكيلوجرامات من المتفجرات بسلاسة إلي قاعة الصلاة، وأدت إلي دمار مفزع، وسقوط عشرات الشهداء، وأضعافهم من المصابين والأسر المكلومة.
ولا نريد أن نتوقف عند مراسم الفولكلور المعتاد، ومن نوع الترحم المطلوب علي أرواح الشهداء والشهيدات، وإقامة الجنازات الشعبية الحارة، وإعلان الحداد الرسمي، والنعي علي همجية الإرهابيين، وابتعادهم عن صحيح الإسلام الذي هو منهم براء، أو ربط ما يجري بقرارات قضائية، أو بمتغيرات سياسية، أو حتي بالمؤامرة علي مصر التي لا تتوقف جولاتها، وكل ذلك مفهوم ومقدر، ويعكس تضامن المصريين الفطري في الملمات، ويؤكد علي مبادئ الوحدة الوطنية الراسخة، لكن هذه الطقوس المعتادة لا تكفي، ولا توقف نزيف عمليات الإرهاب الوحشية، ولا تؤدي بنا سوي إلي فترات توقف قصيرة، نعود بعدها لتشييع الجنازات تلو الجنازات.
والأفضل من ذلك كله، والأولي بالنظر والتفكير والتدبير، أن نلتفت بشدة إلي خلل ظاهر في الحرب المعلنة ضد الإرهاب، فقد يكون مفهوما أن يستمر الخطر في »مثلث الرعب» أقصي شمال شرق سيناء، وحيث يقوم الجيش أساسا بتولي مهمة تصفية خطر الإرهاب، وبإجراءات طوارئ توالي إعلانها علي مدار سنوات، وبما بدا معه أن الخطر محصور في زاوية بعيدة عند الحدود، فيما بدا أن قلب الوادي وعواصمه الكبري في القاهرة وغيرها، صارت في مأمن إلي حد كبير، إلا من حوادث إرهاب نوعية علي فترات متباعدة، وبما أعطي انطباعا بالتقدم والتحسن، وانحسار المخاطر، وتهيئة الظروف لاستقرار أمني مطرد، تنشط فيه حركة الناس الاقتصادية والاجتماعية، وتتزايد فيه أمارات التعافي النسبي في حركة قدوم السياح، وما كادت هذه الانطباعات الإيجابية تترسخ، حتي عادت من جديد حوادث الإرهاب الكبري، وبقوة وعنف مروع، وبعمليات تخطيط مدروسة، لا يصح تصور أنها أعدت علي عجل، أو كرد موقوت علي تغيرات سياسية وقضائية، فتلك تبريرات تلتمس الأعذار حيث لا عذر لأحد، وتتخفي بالحقيقة التي لا نريد أن نعترف بها، وهي انتشار خلايا عنف وإرهاب منظم في القاهرة وما حولها، وطيش الضربات الأمنية، التي قيل مرارا إنها فككت هذه الخلايا الخطرة، بينما الحقيقة للأسف أنها تنتعش، وتسبق في حركتها خطوات أجهزة الأمن العشوائية المتعثرة.
نعم، ثمة خلل مريع في عمل أجهزة الأمن، فالحروب ضد الإرهاب ذات طبيعة خاصة، لا تجدي معها كثرة حشود المجندين في جهاز أمني متضخم مترهل، ولا الحملات العشوائية التي تضرب في غير مقتل، وتؤذي الروح المعنوية للمواطنين المسالمين، المفترض جذبهم إلي مساندة جهاز الأمن، وليس تنفيرهم وتخويفهم وقهرهم، فالحروب ضد الإرهاب لا تنجح بغير دعم من شعب راض متيقظ، ولا تنتصر فيها أجهزة أمن تنشد أعصابها في مواسم بعينها، ثم تعود إلي الغفلة والاسترخاء أغلب الوقت، أو تتخلف عن التدريب ودوام اليقظة، وسرعة التصرف السليم في أوقات المفاجآت، فالحروب ضد الإرهاب مباريات عقل وذكاء ومعلومات وتكنولوجيا في المقام الأول، ولدينا أجهزة معلومات كثيرة وعريقة، غير أن عطبا ما ران علي عقولها وكوادرها، أضعف مقدرتها علي اختراق الجماعات الإرهابية المسلحة، ونال من جدية التحريات التي تتم غالبا بصورة مكتبية، وتؤدي إلي عشوائية التصرف والتحرك، وتأخر الإيقاع بخلايا الإرهاب الأكثر خطورة، وخداع الناس بنجاحات أمنية تفتقد الدليل علي صحتها وجدواها، فكلما كانت المعلومات دقيقة ومحدثة، وكلما كانت التحركات مدروسة ومخططة وبعيدة عن المظهرية، كانت التدريبات راقية مع كفاءة استخدام التكنولوجيا، كلما توافرت هذه الضروريات، كان النجاح المؤكد في محاصرة عمليات الإرهاب، وإجهاضها وقائيا قبل حدوثها، وسرعة وسلامة التصرف عند حدوث اختراق لا يمكن تجنبه، ودقة التعرف علي المرتكبين، وهو ما لا يحدث كثيرا للأسف، ففي أغلب حوادث إطلاق النار علي الارتكازات الأمنية، لا يرد أحد علي النار بالنار، ولا تعمل الكاميرات القريبة من جغرافيا الحوادث الإرهابية، وكأنها تعمي فجأة، أو أنها مصابة بالعمي أصلا من يوم التعاقد علي شرائها في صفقات فاسدة.
وقد يقال لك إن فرط الحذر لا يمنع حدوث القدر، وأن أعتي أجهزة الأمن وأكثرها تطورا، قد تعجز عن تجنب نجاح اختراق وعمل إرهابي مئة بالمئة، خاصة أن تكتيكات الإرهابيين تتطور، وتضع عينها دائما علي الثغرات، وهذا كلام صحيح إجمالا، لكنه لا يصح تبريرا في كل الحالات، فالأساس أن يتعلم جهاز الأمن، وأن يتعظ بدروس الإخفاق والفشل المتكرر، لا أن تتوالي عمليات إرهاب بذات الطريقة، ثم لا يتعلم جهاز الأمن، ولا يتوقي الخطر قبل وقوعه، ويعلق الخيبة علي أقرب شماعة، فليست القصة عندنا في توزيع اتهامات مجانية، بل في التنبيه إلي القصور والاسترخاء وضلال العمل العشوائي، وقد لا يكون بالوسع أن تجاري أجهزتنا مثيلاتها في دول متقدمة جدا، لكن عليها أن تتعلم في تواضع ودأب، وأن تتخلص من ترهلها البيروقراطي، وأن تتطلع لمجاراة نظم عمل أجهزة أمن في دول عربية ليست غنية، أثبتت تفوقها الظاهر في حروب المعلومات والعقول وتفكيك خلايا الإرهاب، وكما يجري مثلا في المغرب وتونس والأردن، فلا يصح لنا أن نتأخر عن الركب، وقد كان جهاز الأمن المصري فيما مضي هو الأنجح والأدق، قبل أن يلحقه القصور العقلي والتضخم المرضي وغياب المساءلة والحساب.