الأخبار
محمد السعدنى
شبح أوباما يراود الخليج ويشعل المنطقة
بينما يسيران في البرية يتسامران تقع عيناهما علي هالة سوداء فوق قمة عالية، واختلفا فيما عساها تكون، قال أحدهما: أحسبها غرابا، وقال الثاني: إني أراها عنزة، وعندما اقتربا قليلاً طار الشيء الأسود فهلل الأول: ألم أقل لك إنها غراب؟ وبادره الثاني: إنها لعنزة ولو طارت. وهو مثل عربي يضرب في المكابرة والعناد والتمسك بالرأي مهما جانبه الصواب. هكذا أخذتني الأفكار وأنا أتطلع الأربعاء الماضي للأخبار الراشحة عن اجتماع مجلس التعاون الخليجي في المنامة، كانت الصورة موحية ومؤلمة في نفس الآن، حين توسطت السيدة تيريزا ماي رئيس وزراء بريطانيا ملوك وأمراء الخليج، وهي تتعهد بأن أمن الخليج من أمن بريطانيا، وهي أيضاً تحاول التخفيف من تصريحات وزير خارجيتها القوي ومهندس خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي بوريس جونسون التي انتقد فيها المملكة العربية السعودية بعنف، قائلة: »هذه التصريحات لا تمثل موقف الحكومة»‬. كان جونسون أدلي بتصريحات أمام مؤتمر في العاصمة الإيطالية روما قبلها بأيام، سربت صحيفة الجارديان البريطانية تسجيلاً لها جاء فيه: »‬هناك ساسة يستغلون الدين والعرقيات التي تنتمي لهم مذهبيا في تحقيق طموحاتهم السياسية ويزجون ببلادهم في حروب بالوكالة، وهذه إحدي أكبر المشكلات السياسية في المنطقة بأسرها، والمأساة تكمن في عدم وجود قيادة قوية بشكل كاف في تلك البلدان». كان يلمح للدور الذي لعبه أوباما في خداع دول الخليج وتوريطها علي حد قوله في »‬حروب بالوكالة» في كل من اليمن والعراق وسوريا وليبيا بمنطق مذهبي سني ضد الشيعة وإيران. وسبق أن ناقشنا في مقالات سابقة رؤية جونسون وتصريحاته المؤيدة لدونالد ترامب والناقدة بشدة لكل من أوباما وهيلاري كلينتون وسياستهما المرتبكة المورطة لدول الشرق الأوسط وأوروبا. وإمعانا من تيريزا ماي لطي صفحة تصريحات وزير خارجيتها ضد الخليج والسعودية، ألمحت بالنقد للسياسات الإيرانية في المنطقة، وقالت الناطقة باسمها: »‬إن رئيسة الحكومة لها كامل الثقة بوزير الخارجية الذي سيتمكن من إيضاح موقفه عند زيارته لمنطقة الشرق الأوسط نهاية هذا الأسبوع»، وأكدت أن رئيسة الحكومة »‬تريد أن تعزز علاقات بريطانيا بالسعودية» قائلة: »‬نحن نساند التحالف الذي تقوده السعودية دعما للحكومة اليمنية الشرعية ضد المتمردين الحوثيين».
وهنا يعلق جيمس لاندال، المراسل الدبلوماسي في »‬بي بي سي»، أن ما قاله جونسون علنا سوف يتسبب في إحراج بريطانيا، خاصة أن رئيسة الوزراء تريزا ماي تناولت العشاء مع ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز، في البحرين أثناء القمة، وأكد أن الأمر يختلف تماما عند الاستماع إلي جونسون وهو يصف ما يجري بأنه تحريك للعرائس من خلف الستار. لكن بوريس جونسون جاء بالفعل لزيارة السعودية لاحتواء الموقف وأكد بوضوح أن السعودية حليف قوي »‬وأن بريطانيا تساندها في جهودها لتأمين حدودها وحماية مواطنيها». وأشار لاندال إلي أنها سواء كانت حربا بالوكالة أم حربا مفتوحة، فإن لندن تساند السعودية علي أرض الواقع ضد الحوثيين في اليمن، المدعومين من إيران، رغم الاتهامات بخرق الرياض للقانون الإنساني الدولي. ماذا يعني كل ما أوردناه؟ يعني بوضوح أن موقف بريطانيا من السعودية والخليج لا يمثل سياسة ثابتة لدي الحكومة البريطانية ولا هو موقف مبدئي من عدالة قضايا الخليج والمنطقة وإنما هي المصالح الآنية المباشرة، والدور المرسوم لبريطانيا في خلافة الولايات المتحدة في المنطقة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، بل لعلها خرجت بالفعل من أجل هذا الدور المرتقب كما أوضحنا في مقال سابق، وحتي لا يقيدها وجودها في الاتحاد الأوروبي »‬العاجز والمترهل والمفكك سياسياً، حسب رؤية بريطانيا باعتبارها قادرة علي أن تقود هذا الاتحاد من الخارج بشكل غير مباشر، فهي البلد الوحيد في أوروبا الذي يتمتع بأيد إضافية قادرة علي التأثير في العالم، من أستراليا إلي الهند، تحت مسمي اتحاد »‬الكومنولث»، وبإشراف أقدم جهاز للاستخبارات الخارجية MI6 الواسع النفوذ، ومن المؤكد أنها علمت مسبقاً أن سياسة الولايات المتحدة حال فوز ترامب ستكون مع تقليص نفوذ الاتحاد الأوروبي الاقتصادي والسياسي وذراعه العسكرية »‬حلف الناتو»، وعلي بريطانيا أن تهيئ نفسها لمرحلة مشاركة الولايات المتحدة، وأن تكون حصان طروادة لها في أوروبا علي حساب حصتها بالمشاركة في قيادة العالم المتوقعة» بنص تقرير شبكة FSSN الإخبارية. إذن هي المصالح وحدها، وتعويض بريطانيا في إطار التخطيط المسبق لنظام عالمي جديد، كان يخطط له أوباما حال فوز هيلاري كلينتون، ويحاول أن يحيله أمراً واقعاً قبل تسلم ترامب.
يحدث هذا بينما يشهد الشرق الأوسط ومحيطه الحيوي موجة إرهابية حادة ضربت هذا الأسبوع باكستان والسعودية وتركيا وعدن ومقديشيو ونيجيريا ومصر في الهرم وكفر الشيخ والكاتدرائية، وبطريقة تبدو متشابهة بما لا يمكن استبعاد أن يكون وراءها مدبر ومخطط وداعم متحكم. ولعلنا هنا نشير إلي دور أوباما المحتمل في إشعال المنطقة في إطار فكرة »‬الأرض المحروقة» التي يستبق بها تولي دونالد ترامب، ويحول دون خروج الخليج من مصيدة التأثير الكولونيالي »‬الاستعماري» الذي يضمن به تحقيق جزء ولو يسيراً من سياساته وأحلامه وهواجسه شبحاً يراود المنطقة بعد ذهابه غير مأسوف عليه. ولم لا؟ فلقد سبق لأوباما أن خدع أشقاءنا في الخليج أكثر من مرة، ليس آخرها قانون »‬جاستا» الذي أخرجه بتوزيع الأدوار مع الكونجرس ليستنزف السعودية ويبتزها، وبتأكيداته بحماية الخليج ضد سياسات إيران في اجتماعه بكامب ديفيد أواخر مايو 2015 مع القادة الخليجيين لطمأنتهم بشأن اتفاقه النووي مع إيران، وبصفقات السلاح التي استنفدت الخزانة الخليجية، وبإقناعهم بتجميد مشروع القوة العربية المشتركة مع مصر، والوقيعة بين السعودية ومصر، ولعل أصابع الولايات المتحدة الأمريكية اللاعبة في إفريقيا ودول منابع النيل إريتريا وإثيوبيا وأوغندا وكذا الصومال التي راحت السعودية للتنسيق السياسي والأمني معهم، ليست بعيدة عن الاتفاق مع بريطانيا علي قاعدة عسكرية في المنامة وقاعدة سعودية في جيبوتي، بدا معها أشقاؤنا في الخليج كالمستجير من الرمضاء بالنار.
يا سادة الأمن لا يمكن شراؤه من السوبر ماركت الأمريكي، ولا باستقدام دولة الاستعمار القديم »‬بريطانيا» للمنطقة وكأننا »‬نسلم القط مفتاح الكرار». متي نتعلم من أخطائنا ونعتمد علي أنفسنا؟ ومتي نقرر ألا ندور في فلك التبعية ونستبدل الذي هو أدني بالذي هو خير؟ ألم تكن أمامكم مصر ومشروعها للقوة العربية الذي كان يغنيكم عن سؤال اللئيم؟ إلي متي؟ وماثل أمامكم هذا التسخين العامد للمنطقة وموجة الإرهاب النشطة التي تضربها، ألا ترون معي أن أصابع أوباما وأزلامه بالمنطقة ليست في مبعدة عنها؟
في ضوء ما تقدم نحن أمام محاولة جادة لإعادة رسم خرائط النفوذ في المنطقة علي حساب الدور المصري، وعلي الدبلوماسية المصرية أن تتحلل من ترددها مراعاة للخواطر والعواطف، وأن تبدأ علي الفور بالحوار مع إيران وهي قوة إقليمية لنا معها مصالح، ويمكن بانفتاحنا عليها أن نؤمن مصالحنا ومصالح أشقائنا في الخليج، بأن تكون مصر بمثابة Buffer zone لمعادلة وتحجيم التطلعات الإيرانية المزعومة، وأن نفتح ملف العلاقات الاستراتيجية مع إدارة ترامب، وتعميق الشراكة مع روسيا والصين، وتبني سياسات مصرية إفريقية نشطة. ولأشقائنا الذين يغامرون أقول: أيها السادة إلي متي تصرون علي أنها عنزة حتي ولو طارت، لماذا المكابرة؟ وأمامكم شبح أوباما لايزال يراود الخليج ويحاول جاهداً إشعال المنطقة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف