من المعتاد فى كل حدث كبير، إرهابى أو غير إرهابى، أن نرى ثلاثة اتجاهات فى التحليل؛ الأول تفسير يستند إلى معلومات مؤكدة، والثانى تحليل يستند إلى افتراضات نظرية ويرجح استنتاجات معينة، والثالث تبرير الحدث من وجهة نظر شخصية بحتة. أبدأ بهذه الملاحظة نظراً لكثرة ما نسمعه حول الأحداث الإرهابية التى تحدث بين الحين والآخر فى القاهرة أو محافظات أخرى، إذ فى هذه الكثرة ما يبعد تماماً عن استيعاب طبيعة الحرب التى يقوم بها هؤلاء الإرهابيون ضد الدولة المصرية ومؤسساتها وشعبها، دون أى تفرقة بين مسلم أو مسيحى، متعلم أو جاهل، غنى أو فقير، كبير السن أو صغير، فالكل مستهدف، والكل مطلوب دمه وحياته. وهو استهداف مُخطط ومنهجى ويتبع آليات إرهابية باتت شائعة ومعروفة وليست سرية أو مخفية. وله هدف كبير يريد أن يصل إليه سواء بعد شهر أو عام أو أكثر أو أقل. هذا الهدف ببساطة شديدة هو إسقاط الدولة فى دوامة العنف ثم الفوضى ثم الانقضاض على ما تبقى من المجتمع لبناء ما يراه هؤلاء الإرهابيون مجتمع الفضيلة وفقاً لقناعاتهم الزائفة.
ما سبق قوله ليس نوعاً من الخيال، بل موثّق فى كتب وبيانات وقواعد إرشادية تُعد بمثابة الوعاء الفكرى والعملى الذى يتبناه الإرهابيون على إطلاقهم، وأياً كانت خلافاتهم الأيديولوجية أو الفكرية السطحية التى لا تتجاوز ترتيب الأولويات لتدمير مجتمع ما والانقضاض عليه عبر الفوضى والعنف. ولعل أحد أهم الكتب المنسوبة لأحد قيادات «داعش» ويدعى أبوبكر ناجى -غالباً اسم حركى- هو كتاب «إدارة التوحش»، وقد سبق لنا كتابة عرض وتحليل لأفكاره فى مقال نُشر فى هذه الزاوية. وللتذكرة فقط فإن هذا الكتاب يكفّر المسلمين ويبيح دماءهم بالمطلق تحت زعم الجهاد، ويشرح ثلاث مراحل تؤدى إلى سقوط الدول والمجتمعات فى أيدى الجماعات الإرهابية التى تتحدث باسم الدين، ويشرح آليات تفجير المجتمعات من داخلها عبر إفقاد الثقة بين مكونات هذا المجتمع بعضه بعضاً، وأيضاً إفقاد الثقة بين المواطن والحاكم، الأمر الذى ينتج عنه فشل مجتمعى ومؤسسى مركب، وهذه هى المرحلة الأولى التى تتلوها المرحلة الثانية وهى الفوضى العارمة، التى يترتب عليها التشرذم والانكفاء على الذات والعودة إلى الارتباطات الأوليّة كالقبيلة والعشيرة والأسرة الممتدة، وهى التى ستحل محل الدولة فى وظائفها، وأهمها الأمن والحماية لأعضائها، الأمر الذى سيؤدى، حسب الفكر الجهنمى للإرهاب، إلى كراهية جماعية متبادلة وتنافر فى المصالح ومن ثم اقتتال من أجل السيطرة والهيمنة. وحين يشتد الصراع المجتمعى وتغيب السلطة المركزية وينتشر العنف وتسود الكراهية، تتشكل بيئة مثالية لكى يخرج التنظيم الإرهابى المستعد لهذه اللحظة ويضرب الجميع بأكبر قوة ممكنة وبأكبر وحشية ممكنة لبث الذعر فى النفوس وإخضاع الجميع، وبالتالى يفرض نفسه كمرجعية سلطة مركزية عليا ويبنى دولته مستنداً إلى آليات عنف وتمييز لا حدود لها. وهذا ما حدث فعلاً فى المناطق التى استولى عليها تنظيم داعش فى كل من سوريا والعراق. وهو ما سموه زوراً جهاداً من أجل الإسلام والخلافة.
هذا الفكر الداعشى ومن قبل القاعدى، لم يعد احتكاراً لهما، أو مرتبطاً فقط بما يُعرف بتنظيمات السلفية الجهادية العنيفة، فقد دخل على الخط أيضاً ما بات يُعرف باللجان النوعية لجماعة الإخوان الإرهابية، وهى اللجان التى تؤمن بالعنف طريقاً وحيداً للعودة إلى حكم مصر، بعد أن تُحقق هدفها الأول وهو فك التلاحم الشعبى ضد الجماعة وبذر الشكوك وعدم اليقين مع السلطة ممثلة فى الرئيس السيسى ومؤسسات الدولة وعلى قمتها الجيش والشرطة والقضاء والرموز السياسية، وصولاً إلى تحقيق هدفها الثانى وهو إغراق المجتمع فى حالة فوضى بنيوية كالتى تم شرحها فى كتيب «إدارة التوحش»، على أمل توظيفها لاحقاً فى تسيّد المشهد المصرى مرة أخرى.
وبالعودة إلى وثائق إخوانية ظهرت فى العام 2015؛ وهى بيان الاستعداد الذى نشره ما سُمى بشباب الإخوان، ثم وثيقة سُميت المقاومة الشعبية ضد الانقلاب، التى أعدها ما يُسمى بمجلس شورى الإخوان، وأخيراً ما يُعرف ببيان الكنانة، الذى أعده عدد من المحسوبين على علماء الدين ذوى التوجهات الإخوانية، وهى كلها تدعو إلى تبنى منهج العنف لإسقاط ما يصفونه بالانقلاب وتصفيته، باعتبار، كما يتوهمون، أن هذه الخطوة ستؤدى تلقائياً إلى عودة الإخوان كجماعة منتصرة ومقبولة من فئات الشعب المصرى لكى تحكم وتسود.
السؤال: ما الذى يعنيه ذلك؟ ببساطة أنه لا توجد خلافات جوهرية بين الداعشيين والسلفية الجهادية العنيفة وبين الإخوان «الإرهابية» فى تجلياتها الأخيرة فكرياً وعملياً، فالكل يتبنى العنف ويستهدف الدولة والشعب ولا يهمه النفس البشرية أو تعاليم الإسلام أو جوهر الدين ممثلاً فى المناصحة والسلم وحفظ الحقوق. وبناء عليه فما حدث من أعمال إرهابية فى شمال سيناء أو فى القاهرة أو غيرهما، وسواء كان مسجداً أو كنيسة أو كميناً للجيش أو للبوليس أو قاضياً أو ضابطاً أو مواطناً بسيطاً، وما قد يحدث أيضاً لاحقاً، هو تطبيق عملى لأفكار الفوضى والخراب من منظور هؤلاء المدعين بالإسلام. ولا يهم هنا أن يحدث هذا العمل الإرهابى بعد حكم قضائى طال انتظاره ضد أحد رموز الإرهابيين الفَجرة كالمدعو «حبارة» وأمثاله، أو أن يحدث بعد تصفية أحد قيادات الجماعة، أو القبض على عدد منهم أو خلية تتبعهم، فكل هذه أحداث تتحرك، بينما هم لا يتحركون كرد فعل، إذ لديهم استراتيجية ومنهج وأدوات، ولديهم أفراد تم مسح أدمغتهم وعلى استعداد أن يفعلوا أى شىء يُطلب منهم، وآخرون يتصورون أنهم يجاهدون فى سبيل الدين من خلال القتل والفساد ونشر الخراب ويطمحون أن يكونوا سادة هذا البلد وحكامه. والأهم أن هناك من يمول بسخاء ويساند دعائياً وسياسياً هذه الاستراتيجية ومنفذيها ولا يهمه أن يسقط الشهداء أو تنهار الدولة، بل إن حدث أى منهما فهو يفرح ويصول ويجول وكأنه صعد إلى القمر.
الأمر باختصار أننا فى حرب قذرة، حرب سوف تأخذ وقتاً وسيقع فيها ضحايا آخرون، حرب تتطلب أن يكون كل مواطن مصرى واعياً ومُدركاً أنه هو الهدف، وأن خلاصه الوحيد أن يكون فى صف دينه الحق ووطنه وليس أى صف آخر.