الأهرام
عبد المنعم سعيد
مبدأ السيسى فى السياسة الخارجية
فى الثانى من ديسمبر الجارى نشرت «آن بارنارد» مقالا فى صحيفة «النيويورك تايمز» الأمريكية عن تأثيرات السياسة الخارجية المصرية والتركية على الأزمة السورية.
وما يلفت النظر فى المقال أن فيه أول محاولة لوضع السياسة الخارجية المصرية فى إطار مفهوم متكامل أو ما يسمى بالمبدأ السياسى أو Political Doctrine الذى يشكل فى سياسات الدول نوعا من “العقيدة” التى تستخرج منها التحركات التكتيكية المختلفة التى تجرى فى ظروف تتصف بالسيولة والتغير المستمر. والذائع بين الدول فى عمومها أنها تضع لنفسها مبدأ سياسيا وآخر عسكريا بحيث يشكل كلاهما النظرة الكلية للأمن القومى للدولة بما فيها مصادر التهديد، وكيفية مواجهتها، وتحدد الخطوط الحمراء لاستخدام القوة العسكرية.

فى هذا المقال نقلت الكاتبة عن الباحث الزائر مايكل وحيد حنا فى مؤسسة القرن بمدينة نيويورك ما سماه “مبدأ السيسي” أو The Sisi Doctrine الذى يقوم على تأييد الدولة الوطنية، والدفاع عن سيادة الدولة داخل حدودها الوطنية، ومن ثم الوقوف بصلابة فى مواجهة النزعات “الإسلاموية”، وبنفس الصلابة فى مواجهة التطرف والتعصب. هذه المباديء ترجمتها فى الأزمة السورية المستعصية تجعل مصر ساعية إلى الحفاظ على الدولة السورية، بحدودها وسيادتها الراهنة؛ والرفض بالتالى لكل ما يخل بذلك، سواء كان ذلك من قبل قوى داخلية تنزع تحت أردية مختلفة إلى تمزيق الدولة؛ أو من قوى خارجية تريد تقسيم الدولة تحت أسماء متنوعة. والحقيقة أن وضع هذا المبدأ فى المقدمة للسياسة الخارجية المصرية، لا يصدق فقط على الأزمة السورية، ولكنه أيضا ينطبق على الأزمات العربية الأخرى فى العراق، وليبيا، واليمن، ولبنان، والسودان، وأيا من البلدان العربية المعرضة لأشكال مختلفة من التقسيم والتفتيت. فمن الثابت، كما حدث فى السودان، والصومال، أن التقسيم، والسماح لهويات مختلفة فى الترجمة إلى دول، لا يعنى إلا استمرار الصراع بين الجماعات الطائفية والمذهبية سواء فى الدول الجديدة أو الدولة الأم أو ما تبقى منها. ولما كانت الحركات “الإسلاموية” بأنواعها المختلفة هى أساس الانقسام المذهبي، فإن مقاومتها بالقوة المسلحة وتجديد الفكر الدينى هو الطريق للتعامل مع المآسى الإنسانية التى جرت فى دول عربية عدة خلال السنوات الخمس الأخيرة.

مثل هذا المبدأ لا ينبغى له أن يؤخذ على أنه قبول بما اقترفه النظام السورى بحق شعبه، ولا سياساته التى وصلت بالدولة كلها إلى ما وصلت إليه من دمار؛ وإنما هو المبدأ الذى ينبغى أن تقوم عليه التسوية السياسية حيث تبدأ كافة أطراف الصراع السياسى من نقطة الإيمان بوجود الدولة الوطنية السورية، وأن البديل الذى يأتى بالتقسيم، أو منح الاستقلال لجماعات عرقية، سوف يكون أسوأ بمراحل من الدولة السورية التى عرفناها. هذه النقطة تلقى القبول من أطراف دولية وإقليمية عديدة؛ بل إن المبادرة الروسية ذات النقاط الثمانى قامت عليها، على أن يكون التفاوض بعد ذلك هو سبيل القوى السورية المختلفة أن تترجم ذلك إلى واقع عملى تقوم فيه دولة سورية قوية. وللأسف فإن المفاوضات توقفت، وحاول كل طرف أن يحقق مزايا عسكرية تكفل له أن يحقق نتائج سياسية مواتية. والنتيجة كانت ما رأيناه فى حلب من تدمير مروع، وكأن بقاء الدولة الوطنية السورية سوف يكون رهينا بتدميرها.

ومع ثقتى فى الجهود التى تقوم بها الدولة المصرية من أجل التقديم لحلول سياسية للأزمات العربية، فإن البداية بمبدأ الدولة الوطنية يحتاج إلى استكمال بمجموعة من المباديء الأخرى ذات الطبيعة الحيوية للمبدأ ذاته، بالإضافة لأنها سوف تفتح الباب لجميع الأطراف الداخلية لكى تشعر أن لها عائدا من الحل داخل الدولة الوطنية. وفى هذا الإطار فإن مبدأين أخرين يكملان ما جاء فى “مبدأ السيسي” المشار إليه، والأول منها هو حقوق الأقليات التى يجب أن تكون مضمونة فى ظل وجود أغلبية كبيرة، خاصة لو كانت معبرة عن طائفة بعينها. وحتى نكون أكثر صراحة، فإنه بدون ضمان حقوق للعلويين والأكراد، فإن دولة ديمقراطية غالبيتها من السنة فى سوريا، سوف تجعل الدولة السورية مثل الدولة العراقية مع الفارق أنه فى الأخيرة كانت الغالبية من الشيعة. أعلم أن هذه التعبيرات الطائفية لا تلائم ما نعرفه فى مصر من انسجام، ولكن الواقع المصرى مختلف ولا يمكن تعميمه؛ فقد تم إنقاذ مصر بسرعة معقولة، أما الحال فى الدول العربية الأخرى فقد اقترب من الدمار الكامل.

والحقيقة، وهذا هو المبدأ الثاني، أن هناك درجة ما مطلوبة من اللامركزية السياسية، ليست على طريقة المحاصصة الكارثية فى العراق، وإنما بما يكفل وحدة الدولة من ناحية، وعدم “اجتثاث” أى من أطرافها السياسية الرئيسية من ناحية أخرى كما جرى فى العراق من قبل. فالأمر فى النهاية يقوم على الحفاظ على الدولة الوطنية وسيادتها من ناحية؛ ولكنه فى نفس الوقت لا يمكن عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه، بما أدت إليه من انفجار فى البداية، ثم استغلال الانفجار لكى تركب فوق موجاتها قوى أكثر تدميرا وعنفا وتعصبا. التوفيق ما بين الناحيتين، يجعل “مبدأ السيسى “طريقا إلى طرح حلول سياسية ودبلوماسية واقعية على كافة الأطراف المشتركة أو المتورطة فى الأزمة السورية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف