غياب الوعى هو المؤامرة الكبرى.. قالها الرئيس وهو يتقدّم جنازة الشهداء فى الجريمة الإرهابية التى حدثت فى الكنيسة البطرسية، وأثناء تقديمه واجب العزاء للشعب المصرى وأهالى الشهداء، وخلال الساعات القليلة التى تلت هذه الجريمة الإرهابية كان واضحاً لكل زى عقل ولكل صاحب منطق ولكل نفس سوية أن غياب الوعى هو المؤامرة الحقيقية، بل هو المؤامرة الأكبر، وإذا كان الوعى حاضراً فأى مؤامرة مصيرها الفشل حتماً، ولو أخذنا نموذجاً تطبيقياً على الجانى فى هذه الحادثة، فمع الدقائق الأولى ودون أى معلومات ودون أى تفكير انطلقت كتائب المتآمرين والموتورين والمرضى لإشاعة أن السلطات فى مصر هى من دبّرت الحادث، وخلفهم سارت جموع المخبولين والمغيبين عن الوعى، لمناقشة هذا الأمر، اختلفوا حوله، ويتساءلون عن حقيقته أو كذبه، وهى حالة تُجسّد معنى غياب الوعى، فالناس تذهب إلى حيث الفخ المنصوب، ويقعون فيه معصوبى العقل، وفى حالة غيبوبة وهيستريا كاملة.
المرحلة الثانية كانت صباح يوم الجريمة عندما فاجأ الرئيس المصريين والعالم، بأن أعلن على مسئوليته، وبوضوح أن أجهزة الأمن توصلت إلى الجانى، وقام بإعلان اسمه رباعياً، وأعلن عن وجود متورطين معه، وبعد ساعات أعلنت أجهزة الأمن باقى أسماء المتورطين، وقالت إن البحث جار عن اثنين هاربين، ثم أعلنت أنه تم القبض على المجموعة كاملة، باستثناء المخطط، وأعلنت تفاصيل كثيرة عن اتجاهات هؤلاء المجرمين وانخراطهم فى الفكر التكفيرى، وفى العمليات الإرهابية الإجرامية، وأعلنت عن علاقة الجناة بتنظيمات إرهابية وبدولة قطر، فجاءت الموجة الثالثة من التشكيك من نفس المتآمرين والموتورين والمرضى بإعلان أن هذا الأمر ملفق لهؤلاء الناس الأبرياء من جهة أجهزة الأمن، وأنه ليس هذا الشخص مرتكب الجريمة وأن الأمن يكذب، وللكارثة تكرر سيناريو الغيبوبة وغياب الوعى للمرة الرابعة عندما سقطت جموع الناس فى الفخ نفسه، وبدأت مناقشة صحة أو كذب الموتورين والمرضى والمتآمرين، واكتملت الموجة مع نشر صورة الإرهابى وأشلائه بعد التفجير نفسه، وتأكيد الطب الشرعى أنه نفسه الشخص، لتبدأ موجة خامسة من التشكيك فى أن هذه الصورة ليست صورة مرتكب الجريمة، ليتكرر السيناريو ويسقط جموع الناس فى فخ الشك والتساؤلات عن مدى الصدق والكذب، ثم كانت الطامة الكبرى عندما أعلنت جماعة داعش الإرهابية مسئوليتها عن الجريمة، وأنها تمت عن طريق حزام ناسف، فلم يخجل المتآمرون من فضح أكاذيبهم وتآمرهم، مع أن هذا الإعلان ينفى أن تكون السلطات فى مصر هى التى ارتكبت الجريمة، لكن هؤلاء المرضى تجاهلوا انكشاف وفضح أكاذيبهم وبدأوا فى التركيز أن اسم الانتحارى الذى أعلنته «داعش» ليس هو الاسم نفسه الذى أعلنته أجهزة الأمن، وبدأ الإعلام والناس فى تداول الأمر، وكأن الأكاذيب ليست واضحة كالشمس، والكارثة الأكبر أن الناس والإعلام والمغيبين عن الوعى وقعوا فى فخ أكبر وأسوأ، وهو أنهم اعتبروا أن ما يقوله تنظيم داعش ما دام قد قاله فهو الحقيقة المؤكدة، مع أن العقل والمنطق يقول إن هذا التنظيم المجرم عدو البشرية وعدو مصر لا يتورع عن أى كذب، فليس شرطاً أن يكون مسئولاً عن هذه الجريمة، ثم لماذا انتظر هذا التنظيم دون أن يعلن مسئوليته عن الحادث والإجابة واضحة، لأنه يريد أن يشكك الناس أكبر وقت ممكن بأن السلطات هى التى ارتكبت الحادث فأحد أهداف هذا التنظيم هو إشاعة الشك، وعندما ظهرت حقيقة المجرم من خلال الكاميرات التى رصدت التفاصيل انتقل التنظيم الإرهابى إلى مربع آخر بمنتهى الحقارة والانتهازية، فأعلن أنه مسئول عن الجريمة، والمنطق يقول إنه لا بد أن يتعمّد أن يعلن اسماً مختلفاً عن الاسم الذى أعلنته أجهزة الأمن، ليثير موجة سادسة من الشك، ويبدأ الناس فى التحدث عن اسم الشخص والتشكك والوقوع فى الفخ نفسه الذى لا يقع فيه إلا غافل أو جاهل وكأنهم يحتاجون إلى دليل أن «داعش» تنظيم إجرامى يهدف إلى تمزيق المجتمع، وأن زرع الشك فى كل شبر من أرض مصر مستهدف ومقصود، ولا نعتقد أن هناك نموذجاً أفدح من ذلك، ليؤكد أن غياب الوعى هو المؤامرة الكبرى، وهذا الغياب عندما يأتى فى مناخ من الشك والهوس والهيستريا الجماعية فلا بد من الحاجة الملحة إلى الإفاقة، وهذه الألاعيب التى لا تنطلى على بشر لديهم الحد الأدنى من العقل، وإذا قمنا بمد الخط على استقامته، سنرى غياب الوعى فى أشياء كثيرة حولنا، منها أننا سنظل فى حالة ندب على أن السياحة ضاعت والدولار ارتفع بنفس حالة الهوس والغيبوبة، دون أن يسعفنا وعينا فى إدراك أنه لا سبيل أمامنا إلا أن نعمل وننتج.. ننتج ما نأكله، ونأكل ما ننتجه، ونعمل بإتقان من أجل أن يكون هذا الإنتاج فى أفضل حالاته حتى يتم تصديره فيعود إلينا بموارد بالعملة الصعبة، وهذا هو الطريق الوحيد والواضح الذى لا بد أن نسير فيه بدلاً من حالة الندب وتبادل الاتهامات، ونعطى السلاح لكل متآمر، ولكل موتور، ولكل مريض، أن ينجح فى أغراضه وكلنا الضحية..