الأهرام
محمد ابو الفضل
الاعترافات السهلة للإرهابيين
العبر التى ينطوى عليها حادث الكنيسة البطرسية فى العباسية، كثيرة ومتعددة ومتنوعة ومتشعبة،
وكاشفة عن نواح مختلفة، لجهة التخطيط والتنفيذ والنتائج، وحتى أوجه القصور، لكن المتابع للمؤشرات العامة لمن شاركوا، بأى وسيلة، فى التفجير، لن يجد صعوبة فى الحصول إلى اعترافات منهم، تُبين الطريقة التى جرت بها العملية، وهى سمة لم تعد خافية على رجال الأمن والنيابة.

فقد لوحظ أن غالبية من خططوا وشاركوا وأشرفوا على عدد من العمليات الإرهابية فى الآونة الأخيرة، يدلون بمعلومات تفصيلية بسهولة، ولم تعد البراءة والإنكار والنفى سبيلهم للهروب والنجاة من العقاب، كما كان الحال فى أوقات سابقة، حيث الوصول إلى معلومة مهمة كان يستلزم مجهودا كبيرا مع المتهمين، ووضعهم تحت ضغوط معينة، أو تقديم أدلة لا تقبل التشكيك.

الظاهرة الجديدة، لاحظها كثير من المراقبين والخبراء، فى مجال الحركات الإسلامية، وتوقف عندها الأستاذ ثروت الخرباوي، فى أحد البرامج التليفزيونية أخيرا، وأرجعها إلى قناعة الإرهابيين الجدد، بأنهم على حق، وما دونهم على باطل، ويقينهم المريض أن الأوضاع الحالية فى مصر لن تدوم طويلا، بزعم أنهم سوف يربحون فى المعركة الراهنة، التى يخوضها ذيول الإرهاب، بشتى أنواعه التكفيرية والسياسية، ضد الدولة وأجهزتها ومؤسساتها المختلفة.

الهدف الخفي، من وراء هذا الاتجاه الزائف، إيمان راسخ فى كسب المعركة المصيرية، ورغبة عارمة فى تقديم العبرة لمن سيأتون بعدهم، من متطرفين وإرهابيين، بذريعة أن الأولين قدموا تضحيات غالية، وعلى من يتولون زمام الأمور مستقبلا، تقدير هذا الدور، والترويج له، باعتباره عظة للشباب، وأملا فى التوثيق وتثبيت العزيمة والقناعات، يقوم هؤلاء بتقديم اعترافات بلا مواربة، للإيحاء بأنهم أصحاب تضحيات، وقدموا قرابين غالية, الأمر الذى يفرض التعجيل بالمحاكمات وتنفيذ الإعدامات لدحض افتراءات هؤلاء.

المشكلة أن الحجج الواهية، لم تعد مقصورة على فصيل واحد من المتطرفين، لكن تكاد تكون سائدة لدى جميع الحركات بمنابعها ومشاربها المختلفة، ما يعنى أن هناك رؤية شائعة فى صفوف هؤلاء، وهناك جهات تشرف على تسويقها ونشرها على نطاق واسع، لبث الأمل، وترسيخ الأفكار التى يتم ضخها، ومحاولة جذب أكبر قطاع ممكن من الشباب، من المحبطين والغاضبين والناقمين والبسطاء، والدليل أن معظم من تورطوا فى عمليات إرهابية، لا يخرجون عن هذه الفئات.

التباهى بالجرائم وارتفاع ضجيج الإرهاب، سمة رئيسية فى خطاب المتشددين، ومن يدّعوا أنهم معتدلون، من المحسوبين على التيار الإسلامي، ومن يدقق فى لحظات الأمل والفرح، التى تجاوزت من شاركوا ماديا، سيضع يده بسهولة على حالات ارتياح لدى من تعاونوا معنويا، كلما كثر عدد الضحايا، من رجال الجيش والشرطة والمواطنين (مسلمين ومسيحيين، شيوخا وأطفالا، رجالا ونساء).

الصخب العارم، والتفاخر الواسع، والاعتراف السهل، الذى يعم المجرمين وتابعيهم، يكشف عن خلل أصبح ينتشر فى المجتمع، من الضرورى معالجته سريعا، قبل أن يزداد عدد المرضي، ومن شربوا كأس الرغبة فى الثأر والانتقام، لأن الاستمرار على هذا المنوال، يضاعف أعداد القنابل الموقوتة، المستعدة للانفجار فى وجوهنا جميعا، كما أن البيئة الخصبة التى تمد هؤلاء بكل الروافد اللازمة لهم، يجب أن تكون نقطة البداية الصحيحة للتشخيص، قبل الشروع فى تقديم العلاج.

الواضح أن اختمار فكرة النجاح لاحقا فى مخيلة الإرهابيين، لها جذور، وتنقسم إلى ثلاثة أنواع، أولها القدرة الفائقة على الشحن العاطفى والديني، ومحاولة الاستناد إلى أدلة تعد بالجنة لمن يقاتلون أعداءهم، سلطة أو شعبا، دون أن يجدوا من يقابلهم لدحض افتراءاتهم بطريقة سليمة، وثانيها وجود مشكلات وأزمات كثيرة، لا تجد من يستطيع أن يقدم حلولا ناجحة وسريعة لها، وحتى المشروعات الكبرى التى يتم تنفيذها بحاجة لسنوات لجنى ثمارها.

أما العنصر الثالث، وهو الأخطر، له علاقة وثيقة بالأجواء العامة، ثقافيا وتعليما ودينيا وإعلاميا، فكل من يتابع ما يقدم على هذه المستويات، يجده ناقصا، بل عاجزا عن تلبية الحد الأدنى من المطالب، ومن حسبوا أنهم نجوم فى مجالهم، لم يقدموا شيئا يظهر كراماتهم.

وزارة الثقافة مثلا، لا تزال عاجزة عن إدراك أهمية دورها الحقيقى فى التنوير والتثقيف، والقائمون عليها فقدوا القدرة على الإلمام بطبيعة دورها الحيوي، وخطورة المهمة الواقعة على عاتقهم فى هذه الظروف الصعبة، وسمح التخلى عن إزالة الغبار والغشاوة من على عيون قطاع كبير فى المجتمع، لتيار التطرف والإقصاء أن يرتع ويمرح، كيفما شاء، وينجح فى استمرار ضخ الدماء، التى تغذى عملياته الإرهابية.

والمؤسسة الدينية، بفروعها المختلفة، مسلمة ومسيحية، تواصل فشلها فى القيام بمهمتها، فى تقديم رؤية معتدلة، تقابل التطرف وذيوله، ولعل الإخفاق فى عملية تجديد الخطاب الديني، بعد مضى أعوام كثيرة، دليل كاف على الخمول والكسل، ولا أقول التواطؤ، وهو ما يمنح المناوئين للدولة فرصة جيدة للتجاوز، والإسراف فى الغي، وبالتالى تزويد الإرهابيين بعناصر جديدة، كلما نضبت أوانيهم القديمة، وشحذ الهمم، اعتقادا بأن التضحيات لن تضيع سدي.

والإعلام، تستطيع أن تتحدث عنه بلا حرج، فقد أخفق فى إرضاء السلطة والشعب معا، والانتقادات التى توجه له من جهات رسمية عدة تؤكد هذه النتيجة، كما أن الموقف الرافض لبعض رموزه فى حادث الكنيسة البطرسية، كشف عن الوجه المقابل.

وإذا كانت السلطة غير راضية عن أداء الإعلام، والشعب غاضب من العاملين فيه، فهذا أكبر دليل على حتمية تغيير المسار، والبحث عن طريقة جديدة تتماشى مع الواقع المعقد، فإذا لم تكن مجددا ومفيدا، من الواجب ألا تكون عبئا ومضللا، وإذا لم تتحل بالذكاء اللازم لا تكن ساذجا، حتى لا تصبح سببا فى مساعدة الإرهابيين، الذين وجدوا فى بعض جوانب الخطاب الإعلامى مادة خصبة لتثبيت قناعاتهم، وعدم التوقف عن الاستمرار فى مواجهة الدولة.

أما التعليم فيمكنك التحدث عن أوجه القصور دون عناء كبير، فلا نزال ندور فى حلقة مفرغة، بشأن تجديد المناهج، ماذا نحذف، وكيف نضيف؟ ناهيك عن سلسلة طويلة من الأخطاء، تجعل من التعليم متدنيا، بشكل يجعل من الطبيعى أن ترتفع نسبة المتطرفين والحاقدين، ومن يريدونها حربا مشتعلة على الدوام.

الأزمة، ليست فى الأمن ولا بطء القضاة فى المحاكمات، فكل منهما يقوم بدوره فى حدود المستطاع، من إمكانات وإرادة، لكن الأزمة الحقيقية فى البيئة التى تُخرج لنا هذا الكم الكبير من المتشددين، الذين يجب أن تتكاتف جميع مؤسسات الدولة لمواجهتهم، برؤية شاملة، وإستراتيجية موحدة، لتجفيف المنابع التى يتغذون عليها، والتى أوحت لخيالهم المريض بأن المستقبل قد يكون لهم.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف