المساء
مؤمن الهباء
شهادة .. رسالة نجيب محفوظ
منذ أيام قلائل مرت بنا الذكري 105 علي ميلاد أديبنا العملاق نجيب محفوظ.. ذلك الرجل الذي استطاع ـ علي بساطته ـ أن ينقل الرواية العربية إلي آفاق العالمية.. وأن يضع لمصر قدماً راسخة في هذا الفن. الذي كنا حتي مجيئه نفهمه علي أنه فن الحكايات والحواديت.
كل الأسماء التي سبقت نجيب محفوظ في الرواية لها الاحترام والتقدير.. وقد أثبتت ريادتها واجتهادها.. لكنها في الواقع كانت إرهاصات ومقدمات لهذا الرجل الذي كان بمثابة التاج علي كل الرءوس. بما أبدع وأنجز.. وبما أحدث من نقلة هائلة في عالم الرواية وضعت اسمه بجدارة إلي جانب أهم الروائيين علي مستوي العالم.
ونحن عندما نقرأ نجيب محفوظ اليوم نكتشف أن الرجل لم يكن أديباً عملاقاً ومتميزاً فحسب. وإنما كان صاحب رسالة سياسية اجتماعية استطاع تمريرها بهدوء في أعماله المقروءة والمرئية.. ولا يكاد يخلو عمل من أعماله في الرواية والقصة التي أبهرت النقاد والقراء علي حد سواء من تلك الرسالة.
اشتهر محفوظ بقدراته الفائقة علي رسم الشخصيات والعناية بتطورها درامياً وتفاعلياً.. كما اشتهر بوصف الأماكن والعناية بلغة السرد والتفاصيل الصغيرة.. لكنه لم يغفل عن الرسالة التي يحملها عمله إلي القارئ أو المشاهد.. وهي في الغالب رسالة غير مباشرة. وإن كانت محددة المعالم ومؤثرة.
كان نجيب محفوظ متأملاً للتاريخ البشري.. ومهموماً بقضايا الإنسان عموماً.. وقضايا مصر تحديداً التي رمز لها بالحارة دائماً.. وقضايا المصريين الذين رمز لهم بالحرافيش ـ عامة الشعب ـ لكنه لم يكن يفضل التعبير عن آرائه مباشرة من خلال المقالات الصريحة.. وإنما يمرر هذه الآراء من خلال رواياته.. لم يدع في ذلك بطولة.. ولم يمارس دور المناضل السياسي أو القيادي المفكر.. واكتفي دائماً بكونه نجيب محفوظ الكاتب الروائي.
وكانت رسالته ـ أو قل رسائله ـ تنحاز إلي قيم التنوير والانفتاح العقلي ومكافحة الخرافة والنفاق الاجتماعي والقهر. وسيطرة التقاليد البالية.. وتناصر حق الشعب في الحرية والعدالة والكرامة في مواجهة الاستبداد والديكتاتورية والفساد.
في روايته "الحرافيش" مثلاً كانت الحارة هي الرمز المفضل الذي يمثل مصر.. هذه الحارة يتناوب عليها الفتوات.. العادلون منهم والظالمون. الذين يمثلون النُخبة الحاكمة.. بينما الحرافيش هم عامة الشعب المقهور العاجز عن تغيير واقعه السييء بنفسه.. لذلك يدمن حلم انتظار "المخلص" أو "البطل القوي المستبد العادل" الذي يقهر الأغنياء ويعيد للحرافيش حقوقهم المسلوبة.
لكن العدل صفة استثنائية في تاريخ الحارة.. والفتوة العادل حدث نادر عابر.. عاشور الناجي الذي استغل قوته الخارقة في نُصرَة الفقراء. جاء من بعده ابنه شمس الدين الذي تعرض للغواية. ولكنه حافظ علي الاستقامة.. ثم جاء ابنه سليمان الذي لم يستطع أن يحفظ العهد.. واستسلم لغواية المرأة والعيش الرغيد. وانتهي مشلولاً لتعود الفتونة إلي الظلم وقهر الفقراء والجباية.. وظل الحرافيش لسنوات طوال يحلمون بالمخلص.. الفتوة العادل.. الذي يعيد عهد عاشور الناجي وشمس الدين.. وينصرهم علي الظالمين.. وحين تطاول العهد وتعاقب الطُغاة. شعر الحرافيش باليأس.. وكفوا عن حلم المخلص.. وقبلوا بالأمر الواقع.
وفي نهاية الرواية يظهر عاشور آخر من سلالة عاشور الناجي.. عملاق مثل جده الأكبر.. استطاع أن يقهر الفتوة الطاغية.. لكنه فعل شيئاً آخر. لم يفعله أحد من قبل.. لقد سلح الحرافيش بالنبابيت والمعرفة ليكونوا حراساً علي عهد الفتونة العادل.. ولا يسمحون بعودتها بعد موته إلي عهد الطُغيان.
وهكذا كانت الرسالة: يا شعب مصر. لا تنتظروا المخلص. لأنكم أنتم المخلص.. بالقوة والوحدة والمعرفة تحرسون العدالة وتقهرون الظلم والظالمين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف