الوطن
أمانى هولة
الرداء الوافى.. حكايات وطن
رائحة نفاذة تجتاح الأنف عطرة أم كريهة، ليس هنالك فرق، ماء مثلج يلامس الوجه الحزين فى هذا البرد القارس، وأناس طيبون كثيرون ملتفون متبرعون ببعض القلق والنصائح، أخفضى رأسها، اضغطى على الجبهة، ارفعى قدميها، هذا كوب ماء بسكر، فلنحضر شيئاً مالحاً، بينما عشرات الصور تتداخل أمام العينين التائهتين.

فتاة صغيرة تبكى بإصرار من أجل الفستان الأحمر بالكرانيش البيضاء والحذاء الكريب الدبابة، ولا يهم ما قد يفعله ذلك بميزانية الأسرة أو بأى شىء آخر على وجه الأرض، قفزات مزقططة تسابق بعضها على سلم المنزل، تاركة يد ماما لترتمى فى حضن جدو، محملة بما أحضرته الصغيرة من أشياء، لا تترك حضنها حتى وهى تغط فى مأدبة دسمة مع الملائكة بلبس العيد.

فتاة يافعة تخجل من نظرات الأم الخبيرة وهى ترصد تطورات الجسد النحيل وقد اختلفت مقاييسه بعد أن تفتحت البراعم الصغيرة للحياة، وأتى خراط البنات فى موعده ليمنحها بسخاء بعضاً من صنيعته معلناً مولد امرأة.

حيرة البحث عن هوية بدءاً بمظهر هو واجهة الروح وعنوانها، تحتار، تختار أم لا تختار، فهذا المكتنز يفضح الخصر النحيل، وذلك القصير كاشفاً ساقين ممشوقتين، أم هذا يشى بجنون التفاصيل، بل هذا يختصر الجمال الذى وقف أمامه كثيراً أمير الشعراء أحمد شوقى، راسماً صورة لا أبدع على أعتاب قصر أنس الوجود فلم يجد رمزاً للجمال إلا امرأة:

اخلع النعل واخفض الطرف واخشع

لا تحاول من آية الدهر غضاً

قف بتلك القصور فى اليم غرقاً

ممسكاً بعضها من الذعر بعضاً

كعذارى أخفين فى الماء بضاً

سابحات به وأبدين بضاً

لتصطدم بكلمات الأم الحازمة يقودها لجام الدين والأخلاق، تستنكر زهوها بأنوثتها، تذكرها بمصير ذلك الجسد الفانى بعد حين عندما تنطق كل قطعة منه بما اقترفته، ويوضع فى الميزان عدد العيون التى نهشته.

تجادل، تقاوح، تتوارى خلف مستجدات العصر القبيح، وتراخى النخوة، واستمراء البذاءة فى المظهر كما فى الجوهر، وتطفو تلك الكلمة اللعينة سر انهزام القيم وتدثر الآثام ببعضها (اشمعنى).

- فيفى وديدى وسوزى، كلهن لا يمانع أحد من أهلهن فيما يرتدين ويحصدن إعجاب الجميع.

- لكنهن لا يحصدن احترام أحد، من يكن بالإطار لا يرى الصورة جيداً، قفى بعيداً ولاحظى انعكاس مظهرهن على سلوكهن، وسلوك الآخرين تجاههن وما يحصدن من همزات ولمزات بمجرد أن يدرن ظهورهن، فالرداء يا ابنتى ليس مجرد تغطية للجسد بل هو انعكاس شخصيتك فى مرآة هى أول ما يرى منك الآخرون، وبمعاييرك الساذجة أميرات أوروبا وملكاتها لا يتعرين معلنات أن الابتذال لبنات الحانات فقط.

ثم وليكن أن الأخريات يحصدن الإعجاب بمقاييس وضعية وأخلاقيات عرفية ومفاهيم نسبية تتغير من مكان لآخر ومن زمن لغيره، فأين أنت؟ أين قناعاتك؟ أين تميزك؟

ولديك المقياس المطلق الذى لا يتغير أبداً، يا ابنتى ستظل الفضيلة هى الفضيلة ولن يكون لها معنى آخر حتى لو نفدت آخر ورقة توت على وجه الأرض.

وهكذا تمر السنون بين نوبات التمرد والطاعة وتكبر الصغيرة وتفهم، وقد أصبحت أماً تغار على صغيرتها من نظرات الطامعين،

كم كانت حكيمة تلك الأم، وكم قدمت من تضحيات، فحذاء جديد لابنتها وسط عشرات أبدى من حذاء واحد لها وقد بلى ما لديها.

وعندما حان وقت الحصاد ورد الجميل كان للزمن رأى آخر، وبعد كل هذا العمر من الفرحة والبهجة التى كانت تتراقص فى عينيها عندما كانت تشترى لها ماما رداءً جديداً، جاء اليوم الذى تتبادل فيه المقاعد فى لعبة القدر العجيبة، وها هى ذاهبة لشراء رداء لوالدتها ولكن، بلا بهجة أو فرحة.

أفاقت أخيراً على همهمات البائعين والزبائن المتحولقين حولها بعطف ممتزج برثاء.

انسابت كلمات صديقتها وصديقة الجميع بالمسجد القريب فى هدوء ملىء باليقين طغى على الضوضاء بالمكان.

يذكرها برحمة الله وحكمته المستورة بحجب الغيب، حاولت تمالك نفسها، اعتدلت فى جلستها لتجد أن رداءها كما علمتها أمها دائماً كان ساتراً لها.

همست صديقتها للبائع توضح له أن والدتها تمضى أيامها الأخيرة وحان وقت الاستعداد لما لا مفر منه.

- تريدينه كم درج؟

- خمسة أدراج.

استطرد البائع قائلاً بتعبير مهنى لا يعرفه إلا العاملون فى المجال أو من مروا بتفاصيل تلك التجربة وودعوا أحباباً كانوا بالأمس يملأون حياتهم بالحياة:

- الله يكرمك، كده هيكون الكفن وافى.

وسط دموعها الصامتة نطقت قبل صديقتها:

- وافى.. وافى جداً.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف