دخلت غرفة الإعدام وشهدت تنفيذ حكم الشنق في قاتل كان قد أصيب بنوبة جنون فقتل والده ثم قصد محكمة أبوتيج جنوبي أسيوط حيث طعن حتي الموت زميله القديم القاضي القاطن استراحة النيابة.. وقرر الأطباء النفسيون مسئوليته عن الجريمتين.. قالوا إن من الحقد ما قتل.
مضي أكثر من 25 عاما لكن رائحة سجن أسيوط لا تغادر مخيلتي منذ ذلك الصباح الباكر وقتما تنفذ تلك الأحكام طبقا للوائح مصلحة السجون.
يوم الإعدام هو يوم مميز للسجن.. يهتم القائمون عليه بأن يبقي في أبهي صورة وهو يستقبل قيادات المصلحة ومديرية الأمن.. ويحضر أيضا ممثلون للنيابة العامة لعل "المحكوم" يدلي باعترافات أخيرة وهو علي شفير الموت.. كما يؤكد حضور رجل الدين الاطار الانساني للموقف الأليم.. وأيضا طبيب السجن ليحصي الدقائق منذ الشنق حتي توقف القلب. 15 دقيقة هي المدة التي تسمح بها اللائحة إذا زادت وجب علي مأمور السجن اكمال التنفيذ برصاصات مسدسه بينما يجازي مساعد الشرطة الذي يشغل وظيفة عشماوي بالخصم من المرتب لتقصيره في أداء الواجب.. لذلك يتواجد عشماوي مع مساعديه في الليلة السابقة علي التنفيذ ويطلع علي وزن المحكوم عليه لتحديد السمك المناسب للحبل المستورد.. فالمحكومون بالإعدام يزيد وزنهم في السجن.. ويزيد طول الحبل عن ضعف طول المحكوم وتوضع عقدة الحبل في الأمام لينخلع الحبل الشوكي اثر صدمة السقوط داخل البئر المجهز في غرفة التنفيذ.. جاءوا بالمحكوم بالبدلة الحمراء يجر قدميه يتقدمه عشماوي بينما مساعداه يحملانه من تحت ابطيه.. وأمام طابور عسكري وصف من الجند تلا مأمور السجن نص الحكم ثم ألقي بسؤاله المعتاد "هل لك طلب أخير" كان المحكوم يهذي بكلمات غير مفهومة بينما عشماوي يلبس رأسه كيساً أسود ويكبل يديه للخلف وساقيه بشريط من الجلد.. ويحمله مع مساعديه مارقا إلي داخل الغرفة حيث المشنقة تبدو كمنصة من الخشب البني اللامع ترتفع نصف متر عن الأرض.. وخلال ثوان ينطلق الصوت المكتوم لفتح "الطبلية" وارتطام الجسد بالحبل.. وبعد دقائق يخرج طبيب السجن من باب جانبي يفضي إلي البئر أسفل المنصة معلنا نجاح المهمة فيبدو الارتياح لأول مرة علي وجه عشماوي.. يتحسس شاربه الكث وهو يتلقي التهاني.. "شنق جيد".
كانت رائحة الموت تعبق ممرات السجن وضوء الشمس يسقط باردا فوق الجدران الشاحبة.. وصمت وقور لا يقطعه سوي مشهد سجين يمضي منكسرا بحذاء مكعوب من قماش فقد لونه.. وشقشقة عصافير تأتي من مكان قريب تذكرنا بأنه مازال في هذا العالم مكان للوداعة.. اجتمع القوم لتنفيذ ناموس الكون.. القانون الإلهي ينفذه حكم دنيوي يتحري العدل ويكفل حق الدفاع "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون" مهمة محددة هي إعدام مجرم ارتكب ما يسقط عنه الانسانية ويحوله إلي مجرد نفاية بشرية تقتضي لفظها خارج سفينة الحياة.
كانت الرائحة كحوض مضمضة في عيادة اسنان بمستشفي حكومي.. وخليط من دخان تبغ مضي عليه زمن علقا في هواء غرفة مغلقة مع عطن تراب عجنته حبات المطر.. وتوليفة عجيبة ربما من العرق والعطور.. شعرت بتلك الرائحة مرات عدة بعد ذلك في غير المكان.. في ساحات اشتباكات مختلطة بالبارود وفي مشارح لم تمحوها المنظفات وفي منادر ريفية مع فناجين القهوة.. وفي دور عبادة لا تخفيها مسوح الدين ولا الزيوت العطرية الزاعقة الرخيصة.. وفي عيون قتلة تبدو رغم الابتسامات كجوف قبر مفتوح.. وصرت أشم تلك الرائحة في التلفاز حين أشاهد علوج داعش علي الشاشات يتهللون فخرا وهم يبدعون طرقا جديدة في ذبح الأبرياء.