المهندس شريف إسماعيل رئيس الحكومة الحالى, ليس من الشخصيات التى تتسابق على الظهور الإعلامى, تصريحاته تتسم بالانضباط الشديد, لا يهوى الأسلوب الدعائى ولا يسعى لمداعبة مشاعر الجماهير طلبا لشعبية مصطنعة, لا يُكثر من جولاته الميدانية ادعاءً لإنجازات غير حقيقية, وإن حدث فلا تكون إلا للضرورة القصوى دون ضجيج أوصخب, ليس لدية «شلة سياسية» تستأثر بالمنافع واستغلال النفوذ, إنه مثال لرئيس الوزراء «التكنوقراط» أى المتخصص الهادئ الذى لايتوقف كثيرا أمام حملات الهجوم عليه ولا يلجأ الى الخطاب «الشعبوى» دفاعا عن نفسه أو حكومته أوبحثا عن «بطولة» أو «كاريزما» مثلما يفعل عادة السياسيون. هكذا قدم رئيس الحكومة نفسه إلى الرأى العام, وهكذا هى صورته بالفعل.
لذلك عندما تعرض برنامجه, الذى تقدم به إلى البرلمان ليحصل على ثقته وفق ما يقتضيه الدستور, لانتقادات حادة ووُصف بالبرنامج «الإنشائى» حيث الحديث عن أهداف التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية لكن دون معايير واضحة للقياس, أى دون خطة تفصيلية وتوقيتات محددة وآليات للتنفيذ تُحول تلك الأهداف إلى واقع ملموس على الأرض, سواء فى الارتقاء بالخدمات العامة وبرامج الرعاية الاجتماعية وسبل تمويلها, أو فى طرق مكافحة الفساد وإصلاح حال المحليات شديد التردى, أو فى كيفية تفعيل أدوات المراقبة والمحاسبة والشفافية وغيرها, لم يخرج كثيرا عن صمته, باعتبار أن القرارات التى ستتخذها الحكومة حتى وإن كانت «مؤلمة» ستكون كافية للرد على هذه «المزاعم».
بالفعل جاءت قرارات الحكومة جريئة, إن لم تكن صادمة, لمعالجة الأزمات المزمنة والتحول من الاقتصاد التخطيطى أو «الاشتراكى» سابقا, الذى سبب ركودا وعجزا مستمرا فى الموازنة العامة إلى الاقتصاد الحر, الذى من المفترض أن يؤدى إلى الانتعاش الاقتصادى ورفع معدلات التنمية كما هو معمول به فى الدول المتقدمة والتجارب التنموية التى حققت طفرة ونجاحا ملحوظا كالنمور الاسيوية والصين, فكان تحرير سعر الصرف وتعويم الجنيه وتخفيض الدعم عن الوقود كمقدمة لمراجعة سياسة الدعم ككل, عقب حصول مصر على قرض صندوق النقد الدولى بشروطه المعروفة.
لكن ليس كل ذلك ما يتوقف عنده المقال, وإنما عند كيفية صنع القرار قبل وبعد أن تتخذه الحكومة وتعلن عنه, وعلى سبيل المثال لا الحصر, الإجراءات التى قامت بها تطبيقا لسياسات التحرير الاقتصادى والتى أدت إلى ارتفاع غير مسبوق فى سعر الدولار, ما ترتب عليه ارتفاع فى جميع السلع خاصة الأساسية منها كالدواء والسلع الغذائية الضرورية, وهو أمر مفترض أنه معروف سلفا ومتوقعا, ورغم ذللك لم تكن هناك آليات محددة لضبط الأسواق أو منع الاحتكارات, وانتهى الأمر بالأزمات المعروفة فى أغلب هذه القطاعات, كذلك التسرع فى فرض قيود على الاستيراد دون وجود بدائل محلية, خاصة أن مصر إلى الآن ليست لديها صناعات وطنية بالكامل, إذ مازالت تعتمد على استيراد معظم الخامات الأولية اللازمة للتصنيع يسرى ذلك على صناعة الدواء والمنسوجات والملابس الجاهزة والخبز والسلع الاستهلاكية الأخرى, ناهيك عن الارتباك الذى حدث عند تحديد سعر السلع والتأخير فى الإفراجات الجمركية والبطء فيها وبالتالى العجز عن الوفاء باحتياجات السوق, أى مزيد من الأزمات.
بالمنطق نفسه, أصدرت الحكومة قرارا بحظر استيراد أية شحنات من القمح تحتوى على نسبة ولو بسيطة من فطر الأرجوت, حفاظا على صحة المواطنين, ثم وبشكل مفاجئ وسريع تراجعت عن القرار, ولكن بعدما تسبب فى كثير من الارتباك, وأخيرا فعلت الشىء نفسه, فجاء قرارها بإعفاء الدواجن المستوردة من الرسوم الجمركية تحسبا لنقص محتمل فى احتياجات السوق المحلية, ولكن لم تمض أسابيع, إن لم تكن أياما, حتى ألغت قرارها. وفى الحالتين لم تُعرف الأسباب.
والأمر هنا بالقطع يتجاوز هذا القطاع أو ذاك, ويطرح قضايا وتساؤلات ترتبط مباشرة بأسباب التردد أو التراجع أو التسرع فى القرار, وفى مقدمتها, هل القرارات الحكومية هى بالفعل قرارات خالصة للحكومة تتخذها بإرادتها الكاملة أم أن هناك جهات سيادية أخرى هى التى تصنعها أو تتابعها أو تحسم أمرها فى النهاية إما مع أو ضد مُحدثة هذه الازدواجية؟ هل هم أصحاب المصالح والنفوذ وجماعات الضغط سواء من القطاع العام الحكومى أو الخاص أو من كليهما هم من يتحكمون ويوجهون القرار؟ أم هى البيروقراطية والدولة العميقة؟ هل هى قرارات متسرعة غير مدروسة تُطلق كـ«بالونة اختبار» وبالتالى تخضع للتجربة والخطأ حتى وإن كانت تمس الشئون الحياتية الحيوية للمواطنين؟ هل هذه الظاهرة تنم عن غياب المستشارين السياسيين لرئيس الوزراء أسوة بأغلب أو كل مؤسسات الدولة؟ هل بإختصار مازالت الحكومة هى أضعف الحلقات فى الترتيب الهرمى للسلطة وبالتالى فهى قليلة الحيلة ووُجدت فقط ليُكال لها الاتهامات والانتقادات لامتصاص غضب الجماهير حال اندلاعه, وبُناء عليه نُريحها ونستريح من التعليق على قراراتها؟ أم أنها كل هذه الأسباب مجتمعة؟
يقترح البعض خروجا من هذا المأزق أو المعضلة, اللجوء إلى رئيس الجمهورية باعتباره الأقدر على حل المشكلات وحسم القرار, فتحدث المناشدات بالتدخل الرئاسى عند أى أزمة صغيرة أو كبيرة, ولكن هل هذا بدوره حل فعلى لدولة تريد أن تُكرس مبدأ دولة المؤسسات والقانون؟
هناك خطأ ما فى هذه المعادلة الخاصة بدائرة صنع القرار هى التى تحتاج للمراجعة وليس بعض القرارات المتفرقة الناتجة عنها, لأن المشكلة نفسها مرشحة للتكرار مع كل ملف جديد مطروح للبت فيه, مثل مشاريع القوانين الخاصة بفرض ضريبة تصاعدية, أوإعادة تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر بالنسبة للإيجارات القديمة, أوالمراجعة الشاملة لسياسة الدعم, فمن يضمن أن لا يتم الرجوع فى القرارات حال اتخاذها؟ ليست القضية فى توجيه اللوم لرئيس الوزراء بقدر معرفة من يصنع القرار أويتدخل فيه.