عندنا مشكلة حقيقية مزمنة في المنظومة التشريعية.. معظم قوانيننا توضع بسرعة تحت إلحاح الحاجة وفي ظل ظروف طارئة.. ولا تأتي وفق رؤية متكاملة تعالج كافة جوانب القضية الحالية والمستقبلية.. لذلك سرعان ما يظهر القانون ثم سرعان ما تظهر مشاكله.. وتبدأ جولة جديدة من المطالبات بتعديله أو سن قانون جديد أكثر ملاءمة.. أو يصدر حكم بعدم دستوريته أو عدم دستورية بعض مواده.
حدث هذا مؤخراً ـ علي سبيل المثال ـ مع قانون الخدمة المدنية وقانون التظاهر وقانون الضريبة المضافة وقانون الجمعيات الأهلية التي اعترف النائب السفير محمد العرابي ـ وزير الخارجية الأسبق ـ في مقابلة تليفزيونية بأن هناك اتجاها لدي كثير من أعضاء مجلس النواب لتعديله رغم أنه لم يمض علي صدوره وقت طويل.
وأحد مشاكل منظومة التشريع عندنا أنها تعتمد في أدائها ـ للأسف- علي الصوت الإعلامي العالي الذي غالباً ما يكون منحازاً ومزايداً ومغرضاً.. وهناك من يراه منافقاً لكل سلطة.. لا يقدر علي تقديم أية رؤية موضوعية أو نقدية.. وإنما يقدر فقط علي الصراخ والعويل وإثارة العواطف والحشد الشعبوي.. بينما المنظومة التشريعية تحتاج إلي سند من الظهير الإعلامي الوقور الرزين الذي لا يدفع في اتجاه الرعونة.. وإنما يجتهد ويناقش ويراعي الآثار الجانبية.. ويتيح الفرصة كاملة لكل الآراء كي تعبر عن نفسها.. حتي يأتي القانون مرغوباً فيه.. ومتسقاً مع القيم الحضارية التي يتقدم إليها العالم من حولنا.. ولا يكون مجرد رد فعل انفعالي يفقد قيمته بعد حين.
أضف إلي ذلك أن 99.9% من القوانين تأتي من جانب الحكومة.. ثم تذهب إلي مجلس النواب لإقرارها.. ونادراً جداً جداً أن يأتي قانون من المجتمع.. أي من مؤسسة أهلية أو نقابية أو مجموعة مؤسسات مجتمعة.. أو مجموعة نواب.. وللأسف عندما تقدم مجموعة من النواب بمشروع قانون الجمعيات الأهلية تبين أنه مشروع حكومي بامتياز.. بل كان مشروعاً أكثر حكومية من القانون الذي أعدته الحكومة وأجرت له حواراً واسعاً وكان جاهزاً لتقديمه إلي مجلس النواب.
معني ذلك أن التشريعات عندنا تأتي في معظمها تدعيماً لوجهة نظر الحكومة وتلبية لاحتياجاتها.. وهناك دائماً فرق جاهزة لتزيين قوانين الحكومة والترويج لها مهما كانت مجحفة.. ولهذا السبب ظهرت في أزمنة سابقة ألقاب مسيئة لمنظومة التشريع مثل "ترزية القوانين" و"القوانين سيئة السمعة".
وفي هذا الإطار لا يمكن لوم الحكومة.. ولا تصور حرمانها من حق المشاركة في التشريع.. وهو حق كفله الدستور.. لكن يظل الأفضل دائماً لضمان استقرار القوانين واستمرارها أن تكون هناك شراكة جادة بين الحكومة والمجتمع من خلال الحوار الحر الموسع حول مشروعات القوانين قبل إصدارها.. وأن تستجيب المنظومة التشريعية لكل الأصوات والآراء.. ثم يكون هناك توازن حقيقي بين القوانين التي تعبر عن حاجة الحكومة والقوانين التي تعبر عن حاجة المجتمع ومصالحه.
في الأسبوع الماضي رأينا كيف كانت المساجلات حامية حول التشريعات الصحفية والإعلامية بين فريقين : الأول يري ضرورة الإسراع بقانون الهيئات الصحفية والإعلامية "الهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام والمجلس الأعلي لتنظيم الإعلام" منفصلاً.. والثاني يري ضرورة إقرار القانون الذي ينظم عمل هذه الهيئات الثلاث حتي لا تعمل بنفس اللوائح والقوانين القديمة.. ولا تتحول القضية إلي مجرد تغيير في الوجوه والأشخاص والهياكل والمسميات.. بينما الواقع لم يتغير.
وبعد أن أقر مجلس النواب القانون الخاص بالهيئات الثلاث تبقي المهمة الأصعب.. وهي إصدار التشريعات المتعلقة بالأداء الإعلامي ذاته.. والتي من المنتظر أن تجعل هذا الأداء أكثر حرية واستقلالية وتعددية.. وفي ذات الوقت تضع الضمانات القانونية التي تجعل هذا الأداء أكثر انضباطاً وأكثر مهنية للقضاء علي الفوضي التي أساءت كثيراً إلي الإعلام كمهنة ورسالة.