ما أن عرف الناس -من خلال فيس بوك- بأمر التفجير الذى تم فى الكنيسة البطرسية حتى تقمصوا جميعاً شخصية ضابط المباحث (كولومبو) مصحوبة بتفسيرات ضيوف برامج (التوك شو) العباقرة من المحللين السياسيين والخبراء الاستراتيجيين والنشطاء الأيديولوجيين.. والمخبرين الصحفيين والنخبويين الجهابذة والمثقفين الحنجوريين.. يتبارون فى تحديد شخصية الإرهابى وملابسات الحادث وطريقة التفجير ونوعية المتفجرات وحجم الخسائر وعدد القتلى والجرحى، فاختلفوا وتشابكوا وتناحروا وتناقضوا فى تعدد أشكال الحبكة البوليسية.. وخيال كُتّاب السيناريو وأفلام الأكشن.. وانحصر اهتمامهم -كالمعتاد- فى استخدام حرفى الاستفهام (مَن.. وكيف) من الجانى وكيف ارتكب جريمته؟.. أما الأسئلة الأهم حول دوافع الجريمة وأسبابها وأهدافها ودلالات تصاعد الإرهاب ومغزى ما حدث فهى أمور لا تشغل بالهم.. إنهم دائماً ما يتركون الجوهر ويبحثون فى القشور.
لذلك فحسن ما فعل الرئيس عبدالفتاح السيسى بالإسراع بكشفه عن منفذ العملية الإرهابية «محمود شفيق»، مشيراً إلى أنه فجر نفسه داخل الكنيسة الأثرية، وذلك خلال مشاركة الرئيس فى الجنازة العسكرية الرسمية للشهداء أمام النصب التذكارى للجندى المجهول بمدينة نصر برفقة قداسة البابا تواضروس.. فقد حسم اللغط المثار فى الشارع المصرى حول شخصية الإرهابى وإلى أى التيارات المتطرفة ينتمى.. حيث أكدت المعلومات أنه أحد عناصر ولاية سيناء الإرهابية.. وهو هارب إلى سيناء منذ عامين من حكم بالسجن بتهمة إحراز قنبلة وسلاح آلى.. وأنه يعتنق الفكر التكفيرى.. ونفذ العملية مع صديقه وزوجته اللذين تم القبض عليهما والعثور على حزامين ناسفين بحوزتهما، كما شارك المتهم فى اعتصام رابعة الذى نظمه التنظيم الإخوانى الإرهابى.
وأحسن البابا تواضروس أيضاً فى الإسراع إلى التأكيد -من خلال كلمته- أن المصاب مصابنا جميعاً كمصريين، منتبهاً إلى أهمية عدم تصنيف القضية تصنيفاً دينياً، فمن زرع قنبلة أمام مسجد السلام بالهرم واستشهد ضباط وجنود ومدنيون، يؤكد أن الإرهاب يمارَس ضد المصريين.. وقد تم الحادث الأخير فى الكنيسة فى يوم من أقدس أيام المسلمين يحتفلون فيه بالمولد النبوى الشريف.. ويفرح أطفالهم بعرائس وحلوى المولد التى حملت شابة مسيحية بعضاً منها لتهديه لطفلة ابنة جارتها.. لكنها استشهدت فى الكنيسة قبل أن تعطيه لها.
إن الإرهابيين التكفيريين لا دين لهم ولا هوية ولا ضمير ولا إنسانية.
ولكن قد يسأل سائل: ألا يتناقض ذلك مع رد فعل «ياسر برهامى» بتصريحاته الطائفية، حيث أعلن فى تصريح له تكفير الضحايا، مما حدا بالنائب ثروت بخيت أن يطالب بإلقاء القبض على «برهامى» فوراً لسعيه لإحداث فتنة بين الشعب.. ورد عليه رئيس البرلمان: فليكن ذلك إذا قال ذلك فعلياً وجبت محاكمته فوراً..
لا غرابة فى تصريح «برهامى» لأنه من المنطقى أن فشله فى شق صف الوحدة الوطنية يثير حفيظة التكفيريين فتصريح البابا وموقف المسيحيين، بالإضافة إلى موقف الدولة يؤكد تماسك وترابط النسيج الوطنى المصرى.. رغم فداحة وبشاعة المجزرة التى استهدفت فى النهاية أبرياء.
ومن هنا فإن مواجهة التطرف لا سبيل إلى نجاحه إلا باجتثاث جذوره الفكرية.. لا التصدى لحوادثه الإرهابية التى تتفاقم وتتوحش وتتجاوز دوائر محدودة نتصور أنها تتم لأسباب لها علاقة بقصور أو تراخٍ أمنى.. أو نتيجة عدم تشديد العقوبات الجنائية.. ومن ثم فإن الحل يكمن فى استحداث قوانين رادعة أو الاستجابة إلى اللجوء إلى المحاكمات العسكرية.
إن البيئة الحاضنة للإرهاب.. تفرض على الجهات البحثية فى شئون علم الاجتماع وعلم النفس دراسة تلك التربة الخصبة التى تتوافر فيها ظروف الفقر والجهل والمرض التى ساهمت مساهمة فعالة فى غسيل المخ الذى يمارسه التكفيريون لمراهقين يتجهون إلى العنف والتدمير والتحول السيكوباتى الذى يعكس كراهية وشراً لمجتمع يراه ظالماً يناصبه العداء ويحرمه من أقل حقوقه.. لكن السماء سوف تنصفه وتضعه فى أعلى مراتب الجنة، لذلك فإن التفكير فى مواجهة العنف بالعنف والإرهاب بالإرهاب ينبغى مناقشته ومراجعته بهدوء.. فالحزام الناسف معناه أنهم لا يأبهون بالموت.. بل يحبونه ويتلهفون لاستقباله لأن الجهاد -من وجهة نظرهم- فى سبيل الله جائزته الكبرى النعيم بأعلى مراتب جنة الخلد.