الأهرام
طه عبد العليم
فى أصول اقتلاع جذور الإرهاب
فى سياق إرهاب تنظيمات الفاشية التكفيرية ـ وفى مقدمتها جماعة الإخوان ـ تأتى الجريمة الدنيئة بتفجير وقتل النساء والأطفال إبان صلاتهم بالكنسية البطرسية، والجرائم النكراء بحرق عشرات الكنائس فى صعيد مصر، وذبح شبابنا المصرى المسيحى العامل فى ليبيا، وقتل الصائمين من جنودنا فى سيناء إبان إفطارهم فى رمضان، وغيرها من الجرائم. وهو إرهاب ينطلق قادته من فكر منحرف وجهول يستبيح أرواح وأعراض ودماء وأموال المخالفين من كل دين ومذهب ومُعتَقَد باسم الإسلام، ويوظِف أوضاعا سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية مولِدةً لجنوده.

وأسجل أولا، أنه على الأمة المصرية ـ بمسلميها ومسيحييها ـ أن لا تكتفى بمحاربة الجيش والشرطة للإرهاب، وأن تستوعب حتمية اقتلاع جذور الإرهاب ومواجهته- من قبل الدولة والمجتمع- مواجهة شاملة: أمنية وسياسية وفكرية وتشريعية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وفى المواجهة الأمنية للإرهاب، ينبغى إدراك أنها حرب مريرة وممتدة؛ تغذيها فى مصر وجوارها العربى حاضنة مجتمعية وفكرية بل ورسمية للفكر السلفى التكفيرى، وتدعمها قوى دولية وإقليمية تستهدف إعادة تمكين تنظيم الإخوان الأم للفكر الفاشى والإرهابى لإسقاط الدولة المصرية! وينبغى على الأمة المصرية استيعاب أنها تخوض حرباً مصيرية، وأن تقليل تكلفة وزمن الانتصار يتطلب عدم فقدان الاتجاه فى تعيين العدو الذى ينبغى أن تُطلق عليه النيران، بإعادة بناء تحالف ثورة 30 يونيو بما جسده من وحدة وطنية فريدة قدمت مثالا ملهما لبلدان عربية مزقتها الفتن المجتمعية والطائفية والمذهبية، واستباحتها تنظيمات الفاشية التكفيرية والإرهابية بدعم مالى وعسكرى وإعلامى هائل ـ وإن كان خائبا وجاهلا ـ من بلدان عربية ليست بمنأى عن مخطط التفكيك والخراب.

وثانيا، أن المواجهة الفكرية لاقتلاع جذور الإرهاب، تبدأ مما أوجزه الرئيس السيسى يقول بشجاعة: إنه لا يمكن لمليار وربع المليار مسلم التغلب على 6 مليارات (هم غير المسلمين فى العالم)، وأنه يجب أن نراجع مفاهيمنا، وأنه لا يمكن أن يكون هناك دين يتصادم مع الدنيا كلها، وأن المشكلة ليست فى الدين ولكن فى الفكر (الدينى). وتستوعب ما أعلنه باستقامة: إن هذا الفكر ينطلق من تكفير المجتمع الى نهج محاربته، وأنه لا مصالحة مع جماعة الإخوان، ولن تقوم لها قائمة؛ جراء فكرها ونهجها، ومسئوليتها عن جرائم الإرهاب؛ مهما تكن مسميات التنظيمات، التى تتستر وراءها الجماعة زيفا وكذبا، وأُضيف أن اقتلاع جذور هذا الفكر لن يتحقق بغير حصار ومحاربة السلفية التكفيرية، التى ترتدى مسوح السلمية تَقِيةً ونفاقاً؛ وتولد كل يوم جندا للإرهاب، وتجهر بازدراء وتحقير من تصفهم باخواننا فى الوطن من المسيحيين الكفار!! وتُكفِّر كل مجتهد يسعى لتجديد الفكر الدينى؛ بل وتقوده للسجن بفرية ازدراء الأديان موظِفة عواراً تشريعياً وجد للأسف من يدافع عنه فى مجلس النواب.

وثالثا، أن المواجهة الثقافية لاقتلاع جذور الإرهاب ينبغى أن تنطلق من حسم مسألة الهوية، والهوية الوطنية ـ وهى ما تعنينا فى حديث دولة المواطنة المدنية الحديثة ـ مسألة تتعلق بأمة محددة تعيش فى وطن محدد، وهى المسألة المحدِدة للولاء والانتماء الوطنى، وقد كتبت وأكرر أنه إذا كانت هناك أمة فى العالم محددة الهوية بغير التباس فإنها الأمة المصرية؛ أول أمة تكونت على وجه الأرض وقبل آلاف السنين من دخول غالبية المصريين المسيحية ثم الإسلام، فليس المسيحيون المصريون ضيوفا ذميين، وليس المسلمون المصريون عربا وافدين؛ إلا فى عقول الجاهلين بتاريخ مصر والمصريين، وقد حدد المصريون هويتهم بهتافهم المدوى فى ثورة 25 يناير: ارفع رأسك فوق.. أنت مصرى! ثم صارت الهوية محلا للالتباس؛ حين رفع الإخوان والسلفيون هتافهم الانقسامى المنافق: ارفع رأسك فوق.. أنت مسلم! وجزئيا حين عزل تيار مسيحى مصرى نفسه قبل أن يعود عوداً حميداً إلى تيار الأمة المصرية، وهو عود تستهدف قوى الإرهاب وأده بالاستهداف الجبان للمصريين المسيحيين، وهنا تجدر الإشادة بالرد الصاعق لجيشنا ثأراً لشهداء الوطن فى جريمة ليبيا، والوعد الحاسم للسيسى بالثأر لشهداء الوطن فى جريمة ليبيا الكنيسة البطرسية.

ورابعا، أن المواجهة المجتمعية تنطلق من حقيقة سجلها جمال حمدان وهى أن مصر لم تنقسم قط داخلياً، ولا عرفت التقسيم، ولا هى قابلة للقسمة تحت أى ظروف أو ضغوط، مهما انفلتت الانفعالات واختلطت الأمور وتاهت الحقائق فى ظل احتقان طائفى عابر، وحتى مثل هذا الاحتقان على علاته له بعض الفضل فى نزح وتصريف المستنقعات الفكرية الضحلة الآسنة والمفاهيم الخاطئة المنحرفة، التى عششت بعض الوقت فى عقول البعض من الجانبين. ولكن أجيال المسلمين والأقباط التى كافحت معا من أجل حرية الوطن والمساواة بين المواطنين بروح من الاحترام المتبادل، وحققت تفاهما عميقا وراسخا ـ كما سجل شارل عيسوى ـ حلت محلها أجيال نشأت تحت حراب التعصب والتطرف الدينى وفتور الولاء والانتماء وأحداث الفتنة الطائفية ونزعات الاستقواء بالخارج والانتساب إلى غير الوطنية المصرية..إلخ. وينبغى أن تنطلق المواجهة المجتمعية من حقيقة أوجزها سليمان حزين يقول: إن الطابع الجنسى العام للمصريين قد وجد قبل أن يكون هناك أقباط ومسلمون! وإن معظم المسلمين المصريين هم معظم القبط المصريين الذين أسلموا بالأمس.

وأخيرا، لنتذكر أن الولاء والانتماء لمصر لن يكون أولاً، فى عقول وقلوب المصريين، بغير توجه واضح وحاسم نحو بناء دولة جميع مواطنيها، التى تستمد شرعيتها من حماية جميع حقوق المواطنة، لكل المواطنين، دون انتقاص أو إقصاء. لكن دولة المواطنة ليست مجرد نقيض للدولة، التى تميز بين مواطنيها بسبب الدين أو المذهب أو العقيدة؛ وإنما هى أيضا الدولة، التى تقتلع جذور الإرهاب بمواجهته الشاملة، حين تحمى وتحترم وتعزز كل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية والمدنية، وهو ما فصلته من قبل فى سلسلة مقالات عن حقوق المواطنة، ويستحق أن أفرد له ـ باذن الله ـ كراسة إستراتيجية قادمة عن دولة المواطنة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف