أشرف محمود
لغة الضاد والهوية الوطنية !
ها قد أظلنا يوم الثامن عشر من ديسمبر ، الذي هو حسب قرار الامم المتحدة اليوم العالمي للغة العربية ، لغة القرآن آخر كتب الله الى البشرية الذي انزله على نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ، غير ان حال اللغة في بلادنا العربية يدعونا لتذكر ماقاله ابو الطيب المتنبي عن العيد بقوله« عيد بأية حال عدت ياعيد ، بما مضى ام لأمر فيه تجديد« ، فحال لغتنا العربية في عصرنا الحديث لايرضي حبيبا ولكنه يسعد عدوا بكل تأكيد ، إذ إن اللغة التي تمثل الاعجاز الذي جاء به النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام ، هجرها اهلها برغبتهم وسعيهم الدءوب الى اللغات الاجنبية ، بل إنهم يدفعون ابناءهم في سن مبكرة لتعلمها على حساب لغة الأمة والهوية والجذور، فتجد الجيل الجديد يتلعثم في نطقها وهناك من ينطقها على غرار نطق الممثلين الذين يقومون بأدوار الاجانب في الاعمال الدرامية ، أما عن كتابتها فحدث ولاحرج، ستجد عجبا عندما تطالع عيناك مايخطه ابناء الجيل الجديد ، فناهيك عن سوء الخط ستجد الكلمات العربية مطعمة بحروف وارقام اجنبية ، يصعب على الجيل الاكبر تفهمها او سبر أغوارها ، بعدما تحولت الى ألغاز ، ومن عجب لا أحدا من المعنيين بالامر التفت اليه واتخذ تجاهه أى اجراءات لمنعه او الحد من انتشاره ، ومازاد الطين بلة ان الامر انتشر نتيجة تعدد المنابر الفضائية والاذاعية الحكومية منها والخاصة ، وجميعهم على السواء الا من رحم ربي ، يتجاسرون على اللغة ويهيلون علي قواعدها التراب، ويتنافسون في ترديد عبارات الجيل الصاعد التي يتحدثون بها مع بعضهم البعض حتى بدت اللغة العربية غريبة عند البعض ، وتجرأ نفر منهم بالسخرية منها ، دون ان يدري ان لغة القوم هي هويتهم ومصدر اعتزازهم وفخرهم ، حتى ان قادة الدول يجب ألا يتحدثوا بلغة غيرها في المحافل الرسمية سواء داخل بلده او خارجها ، ويكفي هنا التذكير بأن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر كان اول من تحدث باللغة العربية في الامم المتحدة ، وان خطبتي الرئيس عبد الفتاح السيسي اللتين إلقاهما في الامم المتحدة كانتا باللغة العربية ، وعلى النحو ذاته يكون حال غالبية الزعماء العرب في المحفل الدولي. إن هوية الامم ترتبط بلغتها ، ومن هنا اجدني مدفوعا بالتذكير بما كتبه واحد من ابرز حراس اللغة العربية ألا وهو الاديب الكبير مصطفى صادق الرافعي صاحب وحي القلم والنظرات وغيرها من المؤلفات التي تحث على حماية اللغة ، فقد كان رحمه الله مهموما بأمرها منبها ومحذرا من خطورة حبسها او اصغار امرها ، اذ كتب عن اللغة والهوية :
إن اللغة هي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها ، وجودًا متميزًا قائمًا بخصائصه ، فهي قومية الفكر، تتحد بها الأمة في صور التفكير وأساليب أخذ المعنى من المادة ، والدقة في تركيب اللغة دليل على دقة الملكات في أهلها ، وعمقها هو عمق الروح ودليل الحس. ويضيف استاذنا الرافعي :إذا كانت اللغة بهذه المنزلة ، وكانت أمتها حريصة عليها، ناهضة بها ، متسعة فيها، مُكبرة شأنها ، فما يأتي ذلك إلا من كون شعبها سيدا ومحققا وجوده ، ومستعملا قوته ، والآخذ بحقه ، فأما إذا كان منه التراخي والإهمال وترك اللغة للطبيعة السوقية، وإصغار أمرها ، وتهوين خطرها ، وإيثارتغيرها بالحب والإكبار، فهذا شعب خادم لا مخدوم ، تابع لا متبوع، ضعيف عن تكاليف «السيادة» ، لا يطيق أن يحمل عظمة ميراثه ، مجتزئ ببعض حقه، مكتفٍ بضرورات العيش، ويكشف الاستاذ الرافعي عن دور المستعمرين في محاربة هوية الشعوب والامم، إذ يرى ان الشعب إذا انقطع من نسب لغته انقطع من نسب ماضيه ، فليس كاللغة نسب للعاطفة والفكر حتى إن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشأ منهم ناشئ على لغة ، ونشأ الثاني على أخرى ، والثالث على لغة ثالثة، لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء ، وهو ما يسعى اليه المستعمر الذي يريد ان يسجن اللغة في لغته وبذلك يمحو تاريخها ، وقد استشعر هذا الخطر كثير من الدول ففرضت قيوداً صارمة من اجل الحفاظ على الكيان اللغوي واتخذت خطوات إيجابية للمحافظة على لغتها، في مقدمتها ، توجيه وسائل الاعلام للمحافظة على اللغة وعدم استخدام المستويات الهابطة منها في حديثهم. من هنا بات على الدولة ممثلة في وزارتي التربية والتعليم والثقافة واتحاد الاذاعة والتليفزيون اوالهيئة المنتظرة للاعلام أن تولي هذا الامر جل اهتمامها فليس هناك مايستحق الاهتمام قبل الهوية ، وعلى أهل الصحافة المكتوبة والمسموعة العمل على الارتقاء بلغة متتبعيهم.. وكل عام ولغة الضاد والناطقون بها بألف خير.