كانت معركة حلب تجليا كاملاً لعصر ما بعد الحقيقة post-truth age، فعلى مدي السنوات الأربع الماضية تحقق في المشهد الحلبي كل أبعاد عالم ما بعد الحقيقة، ولمعرفة أبعاد هذا العالم رجعت إلى قاموس أكسفورد، فوجدته يعرِّف ما بعد الحقيقة بأنها «حالة تكون فيها الحقائق الموضوعية قليلة الأهمية، وأضعف تأثيراً في تشكيل الرأي العام؛ إذا ما قورنت بالآراء الفردية والمعتقدات الشخصية، ففي هذه المرحلة من سياسات ما بعد الحقيقة؛ من السهل انتقاء بعض المعلومات للوصول إلى النتيجة التي تريدها”. عاش العرب مع حلب عصر ما بعد الحقيقة، واستطاع كل طرف أن يعيد صناعة صورة الكارثة الإنسانية والحضارية في حلب كما يريد، وحسبما يهدف، وطبقا لمصالحه ومصالح من يسيره.
انتهت مأساة حلب، وبدأت مأساة العرب، بعد أن تهدمت بيوتها على ثروة العرب، وعلى قيم ومثل العرب، وعلى خطط وإستراتيجيات العرب، وصارت حلب لحظة فاصلة في تاريخ العرب، إما أن يشرق مستقبلهم من تحت أنقاضها، أو أن يُطمر مصيرهم في ركامها، ويدخلوا في مرحلة جديدة من تحكم القوى الإقليمية والدولية فيهم.أول ما تهدمت عليه بيوت حلب كانت مثل وقيم ورجولة العرب، علمهم النبي الأمي محمد الإنسان صلى الله عليه وسلم، ألا يقتلوا طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة، ولا يفزعوا راهباً، ولا يهدموا كنيسة، وعلمهم صلى الله عليه وسلم أن يقاتلوا أعداءهم بعيدا عن النساء والأطفال والشيوخ؛ حتى وإن كان القتال غير متكافئ، ليموتوا بنبل ورجولة، دون أن يعرضوا الضعفاء للأذى؛ حين كان الأذى بالنبال والرماح والسيوف، فخرج صلى الله عليه وسلم لملاقاة قريش خارج المدينة المنورة عند جبل أحد، وهزم المسلمون في أحد عسكريا، ولكن انتصرت القيم والمثل والرجولة. والعرب في حلب مابين قاتل للأطفال والنساء، وهادم للمساجد والكنائس، ومحرض على القتل تحت شعارات الجهاد والثورة والحرية، ليستدر عطف العالم، ويبتز عواطفه لعله يتدخل ليحارب نيابة عنهم، ويأتي لهم بالنصر المبين، وبالحرية والديمقراطية؛ كما تعودوا أن يفعلوا مع العراق وفيه.
وثاني ما اختفى تحت ركام حلب كانت العروبة، وتوابعها من العمل العربي المشترك، أو التنسيق العربي، أو حتى مجرد التفاهم العربي، حين اختلطت أفعال العرب، وارتبكت قراراتهم، وسياساتهم، وتداخلت أهدافهم، فأصبحت دولة مثل مصر التي يربطها بسورية وحدة وتاريخ ما قبل التاريخ، وخاضت حروبها الكبرى على أرض سورية، أو في جوارها منذ حطين وعين جالوت، وهزمت في حلب مع الغزو العثماني، وسقطت القاهرة حين سقطت حلب، أصبحت مصر مطالبة أن تكون رديفا لمن لا علاقة له بسورية، أو تاريخها أو شعبها، ولم تدخل سورية دائرة الاهتمام إلا لتعلق حكومتها الحالية بنظام الملالي في إيران… هنا تحولت سورية ومنها حلب إلى ساحة لحروب بالوكالة، ومجرد مكان لوقف تقدم إيران، ومع هذا الارتباك في المواقف، الذي لم يكن يحتاج أكثر من تفاهم وتنسيق واحترام للخصوصيات، واتفاق على حد أدنى من مصالح العرب، مع هذا الارتباك خسر العرب جميعاً، وتقدم عدوهم الإقليمي خطوة على رقعة الشطرنج العربية.
وثالث ما تهدم مع بيوت حلب القوى الدولية المتفردة بإدارة أوضاع العالم العربي، والقوى الإقليمية الطامعة في التمدد في منطقة الشام، فقد خرجت أمريكا من معركة حلب ضعيفة أمام روسيا، عاجزة عن مواجهتها، أو لجمها وتحجيمها، وخرجت تركيا من مأساة حلب بصفقة قايضت فيها الاقتصاد بالسياسة، وتراجع فيها السلطان ليسمح بمرور القيصر، على حطام حلب تحطم النظام الدولي ذا القطب الواحد، وتحطم النظام الإقليمي الذي كان مصمماً للقيادة التركية.
حلب وضعت العرب أمام خيارين: أما أن يعودوا مناذرة وغساسنة بين الفرس والروم (الاسم التاريخي للترك)؛ وإما أن يتعلموا الدرس قبل أن يندرس وجودهم، ويصيروا بقايا أمة، ولكي يخرج العرب من الحالة التي قادت إلى ما حدث في حلب لابد من النظر في المخارج الآتية:أولاً: لابد من البدء فوراً في حوار إستراتيجي مصري - سعودي يبدأ بحوار بين خبراء ومفكرين إستراتيجيين لوضع أسس للحد الأدنى من التنسيق والتعاون الذي لا ينبغي النزول عنه مهما بلغت الخلافات بين الدولتين.ثانياً: الدعوة لاجتماع طارئ لمجلس الدفاع العربي المشترك، بحيث ينعقد لمدة أسبوعين على الأقل، في جلسات استماع لأراء الخبراء والمفكرين الإستراتيجيين حول التحديات التي تواجه الأمن القومي، وكيفية مواجهتها، والتصدي لها خصوصا تلك التحديات التي تمثلها إيران وتركيا من جانب وإسرائيل وإثيوبيا من جانب آخر. ثالثاً: الاتفاق على ميثاق شرف عربي يمنع الدول العربية من الانخراط في سياسات المناكفة التي تدفع بعض الدول للتعاون مع من يهدد الأمن القومي العربي؛ للكيد لنظام عربي آخر.رابعاً: الخروج من حالة الإنكار في التعامل مع الحالة السورية والدخول في عملية تفاوض مباشرة تجمع المعارضة مع النظام للوصول إلى حلول وسط ومرحلية تحول دون سقوط سورية بالكامل ضمن الأجندة الإيرانية.خامساً: وضع إستراتيجية عربية شاملة لاستيعاب الشيعة العرب وتقديم حلول جذرية لكل التراكمات التاريخية التي تعطي إيران الفرصة لإختراق المجتمعات العربية، والتغلغل فيها.سادساً: لقد ظهر واضحا أن جميع دول الجوار تتآمر على دول عربية معينة، وأنه لا مجال للمجاملة، أو الدبلوماسية الخجولة بعد اليوم، لذلك لابد أن تقوم الجامعة العربية بإعطاء صفة مراقب للحركات الوطنية في عربستان المحتلة من إيران، والأوجادين التي تحتلها إثيوبيا، ولواء الإسكندرون الذي تحتله تركيا. الواقع العربي بعد حلب واقع استثنائي، ولا يصلح معه إلا أفكار استثنائية غير اعتيادية.