عبد الجليل الشرنوبى
يتَطَرَّفْ العالم الثالث ليَسُود الأَوَّلْ
طيلة قرن مضى قررت السينما الأمريكية أن تكرث لصورة نمطية للعربي، مَثَلَّتْ المدخل إلى عالم يتشكل تصنيفاً بين عالم ثالث «العرب فى صدارته»، وعالم أول متحضر «الغرب وعلى رأسه أمريكا»، وقُبَيّل أحداث 11سبتمبر 2001م، صدر كتاب بعنوان (العرب الأشرار فى السينما، كيف تشوه هوليوود أمة)، مؤلفه هو المحاضر الأمريكى «جاك شاهين» المولود فى بنسلفانيا لأبوين مسيحيين هاجرا من لبنان, وحتى سبعينيات القرن الماضى لم يلتق «شاهين» أى عربى مسلم، ثم فاز بمنحة من مؤسسة (فولبرايت الأمريكية) للتدريس فى بيروت التى كانت تكتوى بنيران الاقتتال، ليكتشف الرجل أن (القليل الذى شاهده عن العالم العربى عبر التليفزيون وفى الأفلام لا علاقة له بخبرته المباشرة فى لبنان والأردن والسعودية).
فى كتابه الذى ظل طيلة عقدين يعد له يخرج شاهين بنتائج من بينها (أن تكون عربيا يعنى أن تكون مسلما ويعنى أن تكون إرهابيا، تلك هى الصورة السائدة عن الإسلام - عندما تشوه شعبا فإن رجالا ونساء وأطفالا أبرياء يعانون - عندما ننظر إلى تشويه المسلمين العرب فإن ذلك يجعل كراهيتهم وقتلهم أسهل كثيرا - مئات الأفلام التى ترجع إلى عام 1914 تصور العرب وكأنهم شر خالص - العرب يبدون متخلفين وخطرين عند النظر إليهم عبر عدسات هوليوود المشوهة).
لم يكد كتاب «شاهين» يطل على الواقع حتى كانت أحداث (11 سبتمبر)، ليتراجع صوت السينما تمهيداً ليقتحم النجم العالمى الحاكم «جورج بوش الصغير» بؤرة المشهد مؤبناً ضحايا الأحداث، ومعلناً بداية معركة عالمية جديدة تخوضها أمريكا بقوله (هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب ستأخذ بعض الوقت). ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يستخدم فيها رئيس أمريكى عبارة (الحرب الصليبية) تمهيداً لمعركة، فقد سبقه الرئيس (آيزنهاور) الذى استهدف شحذ همم الجنود استعداداً للهجوم على ساحل نورماندى إبان الحرب العالمية الثانية، فقال (أيها الجنود والبحارة وملاحو الجو فى قوات حملة الحلفاء إنكم مقدمون على بدء الحملة الصليبية التى كافحنا فى سبيلها هذه الشهور العديدة، عيون العالم عليكم، وآمال ودعوات محبى الحرية فى كل مكان تسير معكم).
إن ما صنعته السينما الأمريكية من تشويه عبر قرن مضى لصورة العربى ومن قبله مواطن أمريكا الأصلى (الهندى الأحمر)، و إلى جوارهما صور الإفريقى والفيتنامى والبنمى والكوبي، وغيرهم من شعوب استهداف الإدارات الأمريكية المتعاقبة خيراتهم، يؤكد ببساطة كون العالم فى مواجهة استراتيجية ثابتة لصياغة الوعى العالمى بتشويه ما تستهدف أمريكا نهبه من أوطان. وفى ضوء هذه النتيجة البديهية تصبح مكونات المشهد الحالى (عالم ثالث متطرف) يواجه خطره ويحفظ خيراته (عالم أول متحضر) يسعى ليسود على أشلاء من لا يؤمنون بالحياة ولا يأمنون على امتلاك أدواتها. إنها تماماً افتتاحية الفيلم الأمريكى المنتج عام 2000 (قواعد الاشتباك) حيث أطفال ونساء عرب يرتدين البرقع ويطلقون النار على السفارة الأمريكية فى العاصمة اليمنية صنعاء، بينما ضابط فى الجيش الأمريكى يعطى أوامره بإطلاق النار على المدنيين!، هذا المشهد الذى سبق أحداث 11سبتمبر بعام واحد هو تماماً ما تم ويتم تطبيقه منذ ذلك الحين وحتى اليوم. ولكى تسود الاستراتيجية الأمريكية للهيمنة على عالمنا، لابد أن يظل المبرر قائماً ورائجاً ومتجدداً، وبالتالى يصبح (التطرف) هو المبرر دوماً، ولذا لابد من رعايته مباشرة من قبل (العالم الأول)، فتمنح سلطات الاحتلال الانجليزى (500) جنيه تعادل 505 جنيهات ذهب - لحسن البنا ليؤسس أول مقار التنظيم الإخواني، وتفتح أراضيها لاستقبال مندوبيه على مر تاريخ التنظيم، بينما تمنح المخابرات الأمريكية ثلاثة مليارات دولار لأسامة بن لادن ليؤسس (القاعدة)، وتعيد سلطات (جوانتنامو) إلى العراق (أبو بكر البغدادي) ليؤسس (داعش)، وهكذا تدور رحى طحن أوطاننا ومواطنيها بتهمة تطرف تتجدد كلما حاولت الأوطان التطهر منها، ولا مانع من أن تكون شرارة التحفيز عبارة رسمية من نوعية (حرب صليبية)، تبررها الإدارة عند اللزوم بكونها (زلة لسان).
إن الإنسانية كلها أمام خطر محدق مكمنه استراتيجية الهيمنة العالمية التى اعتمدت (التطرف) الوسيلة الرسمية لرسم (خريطة العالم الجديد)، مستخدمة دماء الأبرياء والمدنيين مداداً لرسمها، وبالتالى يكون عالمنا الذى يصنفه (النظام العالمي) باعتباره (ثالثا) بين خيارين لا ثالث لهما إما الانسحاق هدماً داخل أطر الخريطة الجديدة وإما المقاومة بناءً. وهنا تبرز المسئولية التاريخية لمصر، باعتبارها واحدة من نماذج الدول الأقدم فى عمر الإنسانية، بما تملكه من جذور الهوية وتفرعات التنوع وبادرات الإبداع القادرة على تدبر المشهد للبحث عن سبل الإنقاذ والبقاء، فالتطرف الذى يهددنا ويحاصرنا ماهو إلا مشروع عالمى ينمو فى حاضنة نظام العالم الأول، ثم يعاد تصديره إلى العالم الثالث، ليبرر للأول صياغة العالم الجديد ثم نهب مقدراته وسيادته.