فيتو
المستشار / هدى الأهواني
ازدواجية التحقيق التأديبي في مصر
تختص كل من الجهة الإدارية والنيابة الإدارية في إجراء التحقيق التأديبي مما يؤدي إلى حدوث إشكالية في ازدواج سلطة التحقيق بين الجهتين، خصوصًا أن الجهتين منوط بهما التحقيق في المخالفات التأديبية المنسوبة للموظف العام، فالجهة الإدارية تمارس دورها في الرقابة على كل انحراف يمس أداء المرفق العام، واللجوء لكل الوسائل التي تمكنها من أداء تلك المهمة، ومن بينها إجراء التحقيق للوصول فيما هو منسوب إلى الموظف العام من مخالفات إدارية ومسلكية، وما تقف عليه أو يحال إليها من الإدارة أو من شكاوى الموظفين، وقد خصها المشرع بذلك باعتبار إن الجهة الإدارية القريبة من موقع الخطأ -وفي ذلك يقول استاذنا الدكتور عاطف البنا إن السلطة الرئاسية هى الأجدر من غيرها على تقدير الظروف التي وقعت فيها المخالفة- ومن ناحية أخرى أناط المشرع المصري للنيابة الإدارية كجهاز متخصص بإجراء التحقيق في الجرائم التأديبية، بمقتضى القانون رقم 480 لسنة 1954 ومن أبرز أسباب نشأة النيابة الإدارية هو توفير الضمانات للموظفين المحالين إلى التحقيق، ومعالجة المشكلات التي تولدت من تبعية التحقيقات إلى جهة الإدارة، فقد أراد المشرع المحافظة على طابع التأديب وتحقيق الحيدية لأعضائه، والابتعاد عن تأثير الرؤساء الإداريين، وما يمثله هذا التأثير من خطورة على ضمانات الموظفين.

ولا شك أن تلك الازدواجية يترتب عليها العديد من الثغرات بين الأجهزة المختلفة، وقد تتسبب في إفلات المتهم من العقاب، وهو ما لا يخدم الإدارة أو الموظف العام، لذا قام المشرع بوضع خط فاصل بين اختصاص كل جهة من تلك الجهات، بحيث تختص الجهة الإدارية بالتحقيق في مخالفات معينة، بينما تختص النيابة الإدارية بالتحقيق والتصرف والادعاء في المخالفات الإدارية والمالية، التي تتعلق بالتقصير فيما يترتب عليه المساس بحق مالي للدولة، أو الخاصة بضبط الرقابة على تنفيذ الموازنة العامة، إذ عهد بالتحقيق في تلك الأمور إلى النيابة الإدارية وحدها دون مشاركة من أي جهة إدارية أخرى، وكذا ما يحال إليها من الجهات الإدارية المختصة.

كما تختص النيابة الإدارية بجانب ما سلف التحقيق فيما يتكشف لها من مخالفات، وما يرد إليها من شكاوى الأفراد متى ثبت جديتها، ومما لا ريب فيه أن من أهم الضمانات في نطاق التأديب إضفاء الطابع القضائي على التحقيق من أجل بث الطمأنينة لدى الموظف العام، وكفالة سلامة التحقيق ونزاهته، وهو ما فعله المشرع بإنشاء جهاز متخصص في التحقيق في الجرائم التأديبية بمنأى عن السلطة الإدارية، حيث إن استظهار وجه الحقيقة في هذه القضايا التي تحتاج لخبرة خاصة، اكتسبها أعضاء النيابة الإدارية من خلال تخصصهم وتمرسهم على التحقيق في شتى صنوف المخالفات المالية والإدارية التي يرتكبها العاملون بمختلف مرافق الدولة، والتي تختلف طبيعتها وظروفها باختلاف طبيعة العمل وظروفه بكل من هذه المرافق، ولا يقتصر تحقيق النيابة الإدارية على تحديد المسئوليات التأديبية، بل يمتد لتحديد أوجه القصور والخلل التي أدت لحدوث هذه المخالفات سواء في القوانين أو اللوائح أو التعليمات المنظمة للعمل بالمرفق حتى تكون تحت بصر السلطة المختصة لتلافي القصور مستقبلًا.

ولمحاولة فض التنازع في الاختصاص بالتحقيق، نصت المادة الثالثة من القانون رقم 117 /1958 على إرسال إخطار إلى الوزير أو الرئيس الذي يتبعه الموظف بإجراء التحقيق قبل البدء فيه، وذلك فيما عدا الحالات التي يجري فيها التحقيق بناء على طلب الوزارة أو الهيئة التي يتبعها الموظف.

إلا أن المحكمة الإدارية العليا ذهبت إلى عدم تقرير البطلان على إغفال مثل هذا الإخطار حيث قررت" أن عدم قيام النيابة الإدارية بإخطار الوزير أو الرئيس الذي يتبعه العامل لا يترتب عليه بطلان التحقيق أو أي من إجراءات التحقيق، لأن إغفال هذا الإجراء لا ينطوي على مساس بمصالح العاملين أو انتقاص من الضمانات المقررة لهم".

وقد استطاع المشرع في القانون رقم 115/83 أن يفض التنازع في الاختصاص فيما بين الجهة الإدارية والنيابة الإدارية في مسألة التحقيق مع شاغلي الوظائف العليا، حيث استهدف المشرع من حجب اختصاص الجهة الإدارية في التحقيق مع شاغلي الوظائف العليا، تحقيق ضمانة مهمة على اعتبار أن جهاز النيابة الإدارية جهاز متخصص وعلى قدر من الكفاءة، ولا شك أن ما ينسب إلى شاغلي الوظائف العليا من مخالفات تأديبية قد يكون له صدى واسع في داخل المرفق وخارجه، وهو ما يتطلب أن يتم التحقيق في أجواء خالية من التأثير ورفع الحرج عن المحقق الإداري، مع من يشتغلون بمراكز مرموقة بالجهة الإدارية التي يعمل بها، بجانب أن شاغلي الوظائف العليا قد يجدون غضاضة في الخضوع لسلطة التحقيق في وحداتهم الإدارية، مما يتسبب في اهتزاز مكانتهم وهيبتهم.

كما نصت المادة 79 مكرر المضافة بالقانون رقم 115 / 83 على أنه: "على الجهة الإدارية المختصة بالنسبة لسائر المخالفات أن توقف ما تجريه من تحقيق في واقعة أو وقائع وما يرتبط بها، إذا كانت النيابة الإدارية قد بدأت التحقيق فيها، وعلى تلك الجهة فور إخطارها بذلك إحالة أوراق التحقيق بحالته إلى النيابة الإدارية.

وعلى هذا الأساس قضت المحكمة الإدارية العليا أنه: "إذا تولت النيابة الإدارية التحقيق فلا يجوز للجهة الإدارية أن تتصرف في التحقيق، إلا إذا أحالته إليها النيابة الإدارية، إذ ليس للجهة الإدارية أصلًا أن تحول دون مباشرة النيابة لاختصاصاتها عن طريق مطالبتها بالكف عن السير في التحقيق، أو عن طريق المبادرة إلى التصرف فيه قبل أن تنتهي النيابة الإدارية إلى قرار بشأنه".

وقد ذهبت المحكمة الإدارية العليا إلى بطلان تحقيق جهة الإدارة في المخالفات المالية وبطلان قرار الجزاء المستند إليه -الطعن رقم 4495 لسنة 39 _ جلسة 13 _11_1999.

وفي حالة اختلاف الرأي بين النيابة والجهة الإدارية يكون للنيابة الحق في طلب الأوراق من الجهة الإدارية، وتحال للمحاكمة التأديبية فيصلًا أو حكمًا ما بين النيابة والجهة الإدارية.

وعن مدى جواز اختيار الموظف لجهة التحقيق بأن يطلب إجراء التحقيق بواسطة النيابة الإدارية، نظرًا لكونها أكثر تحقيقًا للضمانات من الجهة الإدارية، فقد قضت المحكمة الإدارية العليا أنه "لا محل لإجبار الجهة الإدارية على إحالة التحقيق إلى النيابة الإدارية، ما دامت قد عهدت به إلى جهة أعطاها القانون هذا التحقيق، وأن اختصاص النيابة الإدارية لا يخل بحق الجهة الإدارية في التحقيق مع موظفيها، كما أن التحقيق الذي يجريه قسم الشئون القانونية والتحقيقات بهذه الجهة الإدارية مع أحد موظفيها يمكنه من الدفاع عن نفسه هو تحقيق سليم ".

وهكذا يتبين من الحكم أن الموظف لا يستطيع اختيار جهة التحقيق وبالتالي يتعين عليه المثول للجهة المختصة، لا سيما وأنها تضم العديد من العناصر المؤهلة لتولي تلك المهمة باقتدار ونجاح، فطالما توافرت ضمانات التحقيق ومقوماته فالأمر واحد سواء باشرته النيابة الإدارية أو الجهة الإدارية.

وفي حالة قيام الموظف بالامتناع عن الإدلاء بأقواله لهذا السبب يكون قد فوت فرصة الدفاع عن نفسه، وقد استقر على ذلك أحكام القضاء الإداري، فإذا رأى الموظف المحال إلى التحقيق أن هناك انتقاص للضمانات المقررة في مجال التحقيق الذي تجريه الإدارة معه فإنه بإمكانه الطعن في قرار الجزاء.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف